بقلم/ مصطفى بن محمد قدوحة
عندما شرَّفني الإخوة في مركز البيان الثقافي بطلب مراجعة كتابٍ عن المرأة لنشرها في مجلة الإنسان المعاصر ، لم أتردد في ذلك إلا تردد من ضاق عليه الوقت ولم يجد به متّسَعًا ، فقد ألزموني – سامحهم الله - بمدة لا تتجاوز الأيام العشر ، لا أجد فيها من السويعات إلا ما أختطفه من سكنات الليل وعتمته البهيمة ، إلا أن حساسية الموضوع قد أثارت لدي نزعة المغامرة ونشوة الاطلاع .
ذلك أن قضية المرأة كانت قد شغلتني وأتعبتني طويلًا ، وهي من القضايا التي قد تمرّدتُ عليها ولم أزل منذ أن وعيتها ووعيت الفهم السائد الشائع فيها ، وليس ذلك إلا لما يحوطها ويحفها من مواقف وآراء وممارسات تخالف وتناقض الفطرة باسم الدين ، وترتدي رداء الشرع والشرع منها يَبين .
وقضية المرأة رغم أنها قضية تخصُّها هي بالذات وتتعلق بها في المقام الأول ، إلا أن موضوعها موضوع سجال بين الرجال ، وإليهم فقط يعود قرار الحسم فيها ، ولذلك فهي وبالرغم من كل ما حققته على الصعيد العالمي من تحولات وإنجازات ، وما اكتسبته من قضايا ومكتسبات ، فإنها لم تزل في حقيقة الأمر رهينة لنظرة الرجل إليها في كل مكان ، فبيَدهِ هو وحده مقاليدها ، إن شاء أن يرتفع بها ارتفع ، وإن شاء أن يهبط بها هبط .
وبين مُزيِّن لعُريها وبين مُزين لجهلها ، وداعٍ إلى استبعادها وداعِ إلى استعبادها - في عالمنا الإسلامي - تخوض المرأة المسلمة معركتها الحقوقية والطبيعية والفطرية بقدر من الوعي المتباطئ الذي يُرجى أن يأتي مع الوقت بخير .
ولذلك كان من الأهمية بمكان أن يرتقي جناحا الإنسانية - الرجل والمرأة - بوعيهما كلٌّ من ناحيته لتخطي كل هذه السلبيات الكائنة ، وممارسة الفطرة الإنسانية والاجتماعية التي فطر الله الناس عليها ، وترسيخ الوسطية التي تُحقُّ الحقَّ ، وتحقق استقرار المجتمع وتنميته ، وتحقق التكامل بين هذين الكائنين البشريين ليؤديا معًا رسالتهما في هذه الحياة الدنيا على أكمل وجه .
والكتاب الذي بين أيدينا " تحرير المرأة في عصر الرسالة " - وهو دراسة جامعة لنصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم - هو محاولة جادة نيِّرة ، ومساهمة فعالة قيِّمة ذات وزن على هذا الطريق ، حيث جاء الكتاب - بجرأة موضوعاته وأطروحاته - ليرفع الظلم الذي أحاق بالمرأة على مدى الأجيال ، ويصحح الخلل الذي اتسعت رقعته ، ويعيد الأمور إلى نصابها بعد ما نُحِّيت قرونًا وقرونًا تحت ضغط التقاليد والعادات والظروف التي ساعدت على تكريسها ، ولعله من الكتب القليلة الفريدة النادرة التي تضاف - إضافة نوعية لا كمية - إلى مكتبتنا العربية والإسلامية كدراسة موسوعية موثقة هادفة ، يمكن للمرء أن يطأطئ لها رأسه إجلالًا واحترامًا ، لما بُذل فيها من جهد وعناء على مدى سنوات طوال ، أنفق فيها صاحبها شطرًا كبيرًا من حياته في استقصاء الكتاب والسنة للوصول من خلالهما إلى الصورة الحقيقية لما كان عليه واقع الأمر في المجتمع الإسلامي الأول ، فيما يختص بالجانب النسائي منه ، وأعني به هنا الجانب الذي يتعلق بشؤون المرأة وأحوالها ، وما رافق ذلك من سلوكات وممارسات ، وشبكة علاقات ، حاول البعض - لسبب أو لآخر ، بقصد أو بغير قصد ، عن وعي أو بغير وعي - أن يطمسها لصالح رؤيته الشخصية أو فهمه الذاتي ، أو آرائه المسبقة التي توهَّم صحتها وصوابها ، بعد أن استطاع أن يُلبسها ثوبًا شرعيًّا عرف كيف يقوم بحياكته ويتقن تفصيله على مدى قرون من الزمان .
والكتاب الذي بين أيدينا موسوعة فقهية اجتماعية حاول فيها المؤلف أن يبرز دور المرأة بكل أبعاده الشخصية والمجتمعية ، ويبلور النظرة العملية لما كان عليه حالها في ذلك الزمان ، زمن الرسالة والوحي المنزَّل . لذلك فقد جاء اختياره للعنوان " تحرير المرأة في عصر الرسالة " اختيارًا موضوعيًّا معبِّرًا ينبع من لُب المشكلة التي نعاني ، وانعكاسًا لوضعيةٍ غير سوية أراد أن يقوِّم اعوجاجها ، ويردها إلى أصلها السوي الذي كانت عليه .
فالعنوان بحد ذاته اعتراف بواقع معاصر - يضع النقاط على الحروف ، ولا يختبئ وراء الظلال - وتشوُّفٌ إلى واقعٍ نقيض قد تقضَّى يحاول المؤلف أن يعيدنا إليه . ف"تحرير المرأة في عصر الرسالة" ليس إلا ردًّا على تقييدها في العصر الحديث ، اعترف بذلك المعترفون أو أنكر ذلك المنكِرون . ومن هنا كانت أهمية الكتاب الذي يقفز فوق آراء الرجال وتصوراتهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم ، لينهل من المنبع الأصيل الذي هو الكتاب والسنة .
ورغم كل التقدير الذي أكنناه لهذا العمل - وسيكنُّه كل من سيطَّلع عليه - إلا أن المرء ليأسف أشد الأسف لأن يضطر أحد من أفراد هذه الأمة لأن ينفق شطرًا من عمره ، ويبذل مثل كل هذا المجهود ليثبت لأمته ولمجتمعه الإسلامي المعاصر ما لا يحتاج إلى إثبات ، ولكنه الخلل الذي استشرى وبات يحتاج إلى استئصال .
والكتاب إلى جانب تميزه بأدب الحوار وعقلانية النقاش ، فهو ثورة في ميدان الفكر والفقه المجتمعي ، لذلك فهو يندرج في خانة كتب " الدراسات " ذات الغنى التي يحتاج إليها المسلمون أشد الاحتياج في عصرنا الحاضر ، لإعادة بلورة وصياغة بنيتهم الفكرية ، ووعيهم الإدراكي لواقعهم المعيوش ، على طريق إعادة بناء مشروعهم الحضاري المأمول ، وإنجاز شروط تقدمهم .
وقد وعى المؤلف هذا الأمر الخطير لشروط الإنجاز الحضاري وأدرك أبعاده الجوهرية في عملية التغيير إلى أبعد حد ، كما سيتبين لنا لاحقًا عند عرضنا لمنهج الكتاب .
والكتاب إذ يعالج مسائل ذات أهمية ، ويحاول أن يصوب مفاهيم خاطئة قد طغى عليها الالتباس والانحراف ، فهو لا يكتفي بمناقشة ذلك من الناحية الفقهية فحسب ، وإنما يحيط موضوعه بالتعليل المنطقي والاجتماعي الذي يعالج الظاهرة بما هي ظاهرة شاملة موجودة في الواقع بمختلف محدداتها ، وليست مجرد موضوعات فقهية باردة مبتوتة الصلة بالحياة .
ومن هنا كانت أهميته التي اكتسبها من جرأة الطروحات التي خاض فيها ، وتعدد الزوايا التي انطلق منها وسعى إلى تكريسها ، بعد المحاولات التي بُذلت لتهميشها .
أسباب المشكلة :
في تقديمه للكتاب يقوم الداعية الدكتور يوسف القرضاوي بتوصيفٍ لأساس المشكلة التي حلّت بساحة المرأة وأدّت بالمسلمين إلى اتخاذهم هذه المواقف منها ، فيقول : " بَيْدَ أن مما يؤسف له أن بعض الأفكار القاتمة عن المرأة قد تسرّبت إلى عقول طائفة من المسلمين ، فساء تصورهم لشخصية المرأة ولدورها ، وساء - تبعًا لذلك - سلوكهم في معاملتها ، وتعدوا حدود الله في ذلك فظلموا أنفسهم وظلموها ، وخصوصًا في عصور التخلف التي بعدت الأمة فيها - إلا من رحم ربك - عن هدي النبوة ووسطية الإسلام ومنهج السلف الذي يتميز باليسر والاعتدال .
وإذا نظرنا إلى عصرنا هذا ، نجد عندنا آفة غلبت على حياتنا الفكرية طالما شكا منها أولو الألباب وهي : أننا في كثير من قضايانا - بل في أكثرها - لا نقف الموقف الوسط الذي سمَّاه القرآن (الصراط المستقيم) ، بل نقف - في الأعم الأغلب - في طرفي الغلو والتقصير ، أو الإفراط والتفريط ، مع أننا نقرأ قول الله تعالى : {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة : 143] ، ونتداول الحكمة المأثورة : (خير الأمور أوساطها) ، ونروي قول علي رضي الله عنه : (عليكم بالنمط الأوسط ، يرجع إليه الغالي ويلحق به التالي) ، وقضية المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية مثلٌ بارز يجسد موقفي الغلو والتقصير ، أو الإفراط والتفريط " .
ومن هنا فقد جاء هذا الكتاب " ليجلي هذه الوسطية ، ويبرز موقف الإسلام الحق من هذه القضية الخطيرة التي اختلط فيها الحابل بالنابل ، والتبس الحق بالباطل ، قضية المرأة ودورها في البيت والمجتمع والحياة " .
وللقيام بهذه المهمة ، فقد قسَّم المؤلف الكتاب إلى ستة أجزاء منفصلة بأبواب متتابعة ، حاول أن يحيط فيها بأطر المسألة من كل جوانبها . وقد جاءت هذه الأجزاء كما يلي :
1- معالم شخصية المرأة المسلمة (319 صفحة) .
2- مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية (461 صفحة) .
3- حوارات مع المعارضين لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية (233 صفحة) .
4- لباس المرأة المسلمة وزينتها (333 صفحة) .
5- مكانة المرأة المسلمة في الأسرة (311 صفحة) .
6- الثقافة الجنسية للزوجين (240 صفحة) .
ما هي دوافع تأليف الكتاب :
في دوافعه لتأليف الكتاب يتطرق المؤلف إلى تلك المفاجأة الكبرى التي تعرَّض لها في أثناء دراسته لصحيح مسلم واستعراضه لأحاديثه وتصنيفها ، حيث فوجئ بأحاديث عملية تطبيقية تتصل بالمرأة وبأسلوب التعامل بين الجنسين في مجالات الحياة المختلفة .
وكان سبب المفاجأة - كما يذكر - أن هذه الأحاديث تُغاير تمامًا ما كان يفهمه ويطبقه ، بل ما كانت تفهمه وتطبقه جماعات من المتدينين الذين اتصل بهم ، وهم من مشارب واتجاهات حركية مختلفة .
ولم يقف الأمر بالنسبة إليه عند حدود المفاجأة ، وإنما شدته تلك الأحاديث لخطورتها وأهميتها إلى تصحيح التصورات الشائعة عن شخصية المرأة المسلمة ومدى مشاركتها في مجالات الحياة في عصر الرسالة ، الأمر الذي صرفه عن مشروعه الأصلي المتعلق بكتابة السيرة المستنبطة من الأحاديث ، إلى مشروع جديد يتمحور حول عمل دراسة عن المرأة المسلمة في العهد النبوي ، تلقي الضوء الساطع على "التحرير" الذي حظيت به المرأة في عصر الرسالة ، وتصحيح المفاهيم والتصورات السائدة عنها التي تخالف ما جاء به الشرع الحنيف .
في موضوع الكتاب وهدفه :
يعتبر الكتاب في الأساس دراسة اجتماعية فقهية متخصصة عن المرأة في عصر الرسالة . وقد اجتهد المؤلف في أن يحوي كتابه كل النصوص التي تشير إلى المرأة من قريب أو بعيد ، في حياتها الخاصة والعامة على السواء ، وإلى طبيعة علاقاتها الاجتماعية ونشاطاتها المتنوعة .
وقد أشار المؤلف في هذا السياق إلى نقطة مهمة أساسية ، وقاعدة تأصيلية قام بإثارتها والتركيز عليها ، تنبئ عن فهم وفقه عميق ، وتصور دقيق ، وذهنية صافية واعية ، تتعلق بما سمَّاه بالجوهر والشكل في الأفعال ، فقال : " إن كل فعل من أفعال المكلفين يحوي جوهرًا وشكلًا ، أي إن الجوهر يتشكل في صور تطبيقية متعددة تمليها البيئة وظروف الزمان والمكان . ومن الأهمية بمكان التعرف الواعي على الجوهر ، فإن كان مباحًا استمرّت هذه الإباحة ، وإن كان غير مشروع - أي حرامًا - استمرت الحرمة .
أما صور تطبيق هذا الجوهر فهي كما قلنا متغيرة متطورة ، ومهما اختلفت فكلها يأخذ حكم الجوهر . وهذا التمييز ضروري ويفيدنا في قَبول واستيعاب صور تطبيقية جديدة .
فمثلًا موضوع تعليم المرأة أو النشاط الاجتماعي والسياسي للمرأة ، كل هذه الموضوعات لها جوهر أقرَّه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولكن هل صور التطبيق التي تمَّت في العهد النبوي تفرض علينا أن نقف عندها لا نتعدَّاها ، أم علينا أن ننظر في العوامل الجديدة المؤثرة ؟ أي الظواهر الاجتماعية الجديدة ، ونعيد تشكيل صور التطبيق بناء على هذه الظواهر ؟ " .
السؤال مطروحٌ على كل مسلمٍ ليجيب عليه انطلاقًا من فطرته , إلا أن المؤلف لم يقف عند حدِّ طرح السؤال وترْكِه معلَّقًا من غير إجابة ، وإنما قام بعمل وصياغة هذه الإجابة عندما شرع في " رصد الظواهر الاجتماعية الجديدة المؤثرة على نشاط المرأة وعلاقاتها ، سواء في الأسرة أو في المجال المهْني أو الاجتماعي أو السياسي ، وكذلك الظواهر المؤثرة على ملابس المرأة وزينتها . وذلك حتى تستطيع المرأة المسلمة التكيف الصحيح والضروري مع المجتمع المعاصر ، وفي الوقت نفسه تقف عند الجوهر المشروع فتستقيم بذلك على أمر الله " .
وقد صرَّح المؤلف في جملة ما صرَّح به أن الهدف من هذه الدراسة الاجتماعية الفقهية التي قام بها وأخذت من عمره سنين ، والتي أوضحت بجلاء كيف تم تحرير المرأة في عصر الرسالة ، هو الإسهام العملي في إعادة تحرير المرأة المسلمة المعاصرة محتذين في ذلك خطى التحرير الأول ، ومقتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلَّم .
وقد انطلق المؤلف من هذا الهدف لينبهنا ويَلفت نظرنا إلى قضية أكبر وأخطر - هي أم القضايا في نظره ونظرنا – وهي في أساس الأزمة العامة التي نعاني ونكابد في سيرورة العمل الإسلامي والتي تستدعي جهود العلماء والمفكرين ، وهي قضية " تحرير العقل المسلم المعاصر " التي لا نماري في أهميتها ، ونراها في طليعة القضايا إن لم تكن على رأسها جميعًا ، والتي هي بمثابة الباب الأول الذي يفتح ما وراءه من الأبواب .
فتحرير العقل المسلم - كما يقول المؤلف - من القيود الهائلة ، والموازين الباطلة ، والأفكار الفاسدة التي سيطرت عليه عبر القرون فأعجزته وشوَّهته ، هو السبيل الذي لا سبيل غيره إلى التحرير الكامل والأصيل للمرأة والرجل معًا ، وإلى إعادة بناء المجتمع كله على أساس ٍ صحيح ومتين .
في منهج الكتاب :
اعتمد المؤلف في تأليفه للكتاب على " منهج استقراء النصوص " كتابًا وسنة ، وهو منهج يتيح شمولية الرؤية واتساعها ، ثم قام بعرض جميع النصوص ذات الدلالة على موضوعات البحث ، وهي نصوص - كما رآها - واضحة الدلالة لأنها في الأعم الأغلب نصوصٌ تطبيقية عملية لا حاجة معها إلى بذل جهد كبير في الاستنباط ، لذلك فهو يسوقها في كثير من الأحيان دون أن يعلق عليها ، وإن حصل وعلَّق عليها " مستنبطًا أو شارحًا أو مرجِّحًا أو مطبقًا لها على واقع الحياة ، وجدتَّه طويل الباع في التعبير عما يريد" .
وقد كان جُل اهتمامه – كما حاول الإيضاح – أن يوفر الاطمئنان لعقل المسلم وقلبه ، وذلك بإطلاعه على الأدلة الشرعية في نصوصها الأصلية التي تسند الرأي المعروض .
"والكتاب يسير في اتجاه التيسير ورفع الحرج والإعنات عن المرأة المسلمة .. وسبب ذلك أن الاتجاه الذي ساد العالم الإسلامي قرونًا هو اتجاه التزمُّت والتشديد على المرأة وسوء الظن بها " .
وعلة ذلك الموقف المتشدد - كما أوضحه الشيخ القرضاوي في مقدمته للكتاب – تتجلى في أمرين :
أولهما : جهل الأكثرين بالنصوص الشرعية التي تتضمن التيسير وتُقاوم التعسير ، وبخاصة نصوص السنة النبوية الصحيحة التي نُسيت في الدواوين الكثيرة ، واشتغل الناس عن الكشف عن كنوزها بكُتب المذاهب وفقهها ، وما ترتب على ذلك من إغفال للأحاديث الصحيحة والاستدلال بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة .
وثانيهما : سوء فهمهم للنصوص التي عرفوها بوضعها في غير موضعها ، أو قسرها على استنباط أحكام منها لا تدل عليها إلا باعتساف ، أو بترها عن سبب ورودها ، أو عن سباقها وسياقها ، أو عزلها عن باقي أحكام الإسلام ومقاصده الكلية ، فلا يُوفَّق بين بعضها وبعض .
وقد كان من ثمرات المنهج الذي اتبعه المؤلف - والذي هو منهج استقراء النصوص - تحقيق نوع من التصنيف الموضوعي للنصوص المتعلقة بالمرأة في القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم اللذَّين اكتفى بهما في هذا الكتاب ، بالرغم من استقرائه لبقية كتب الحديث الاثني عشر المتداولة .
ومن هذا المنطلق فقد اعتدَّ المؤلف بهذه الثمرة التي منَّ الله بها عليه كونها خطوة عملية في سبيل الدعوة إلى عمل تصنيفات أخرى جديدة لنصوص القرآن والسنة وفق الحاجات المتجددة للأمة الإسلامية ، من قبيل العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسة والاقتصاد والتربية وعلم النفس وغيرها من المشكلات والقضايا المعاصرة كقضايا المرأة والتكافل الاجتماعي ومناهج الإصلاح والتغيير ، والمنهجية التفكيرية للمسلم التي تأتي في سُلَّم الأولويات . وهي دعوة إذ تدل على وعي صاحبها ومدى بصيرته فإنه يؤكد أمرها ويراها جديرة بكل اهتمام ، وذلك لأنها تؤدي إلى عمل منهجي جديد يعين على تحقيق "الاجتهاد" المرجو في الفقه ، و"التجديد" المأمول لأمر الدين الذي بشَّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في مشروعية هذا العمل :
إذا كان المؤلف يدعو المسلمين للرجوع إلى أصول هذا الدين التي حفظها الله تعالى حتى يرجع إليها الناس في كل حين ، وأن لا يعتبروا أمر الدين ميراثًا يتناقله الأبناء عن الأبناء والأجداد كيفما كان ، فهو يرجو أن يكون قد أعانهم في "هذا العمل" على أن يردوا قضايا المرأة المتنازع فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا المجال فهو يقدم تحليلًا قيمًا للسيرورة العملية وللأسباب الموجبة لما آل إليه حال المرأة في المجتمع الإسلامي ، وللعوامل المساعدة على ذلك ، والتي تحسن أن تكون مبررًا لمشروعية ما قام به وأنجزه فيقول :
"إذا كان الاستهداء بالهدي النبوي أمرًا مطلوبًا وضروريًّا لتصحيح مسار حياتنا في جميع المجالات ، فهو أشد طلبًا وأكثر ضرورة في مجال مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية ، وذلك أن الهدي النبوي في هذا المجال قد أصابه ما يشبه التغيير الجذري بل المحق الكامل ، فالتطبيقات العملية لمشاركة المرأة في العهد النبوي كانت سننًا يُهتدى بها ، ونماذج رائعة يُقتدى بها ، ولكن بدلًا من أن يُنسج على منوال تلك السنن وبدلًا من أن تُحتذى تلك النماذج في تطبيقات جديدة بفعل تطور المجتمعات ونموها ، وبدفعِ وتوجيه القيم الدينية الرفيعة ، بدلًا من ذلك أخذت تتضاءل وتنزوي تلك السنن في مجال التطبيق العملي ، بل وكادت أن تنمحي نهائيًّا . أما النصوص المعبرة عن تلك السنن والنماذج فقد بقيت مسطورة في الكتب فحسب ، وقد فقدت إشعاعها الذي أراده لها الشارع الحكيم ، فقد طمس معالمها وحجبها عن العقول والقلوب غبارٌ كثيف من تأويلات الرجال وأقوال الرجال " .
أما ما هي تلك العوامل التي ساعدت على ذلك وانتكست بسير الأمة في الاتجاه المعاكس غير الصحيح ، فقد حصرها المؤلف في أربعة :
1- بقية من عادات وتقاليد جاهلية ، سواء من جاهلية العرب أو من جاهليات الشعوب التي دخلت في الإسلام وجلبت معها قليلًا أو كثيرًا مما رسخ في عقولها وقلوبها وسلوكها على مدى قرون من الزمن .
2- ظهور نزعات من التشدد والغلو عند بعض المسلمين ، كتشددهم في سد ذريعة فتنة المرأة . (وقد عقد المؤلف فصلًا خاصًّا لبيان الغلو في تطبيق قاعدة سد الذريعة) .
3- اجتهادات خاطئة أو مرجوحة صدرت من بعض علماء السلف عظم شأنها وتضخَّمت نتائجها لثبات توارثها قرونًا متطاولة بفضل الجمود والتقليد .
4- مسألة تحقيق أسانيد السنة على يد البخاري ومن جاء بعده والتي تأخرت عن وقت ظهور الأئمة الأربعة الذين كانوا على وعي بهذه المسألة فقالوا بوجوب وزن أقوالهم بميزان ما يصح من السنة ، إلا أن كثيرًا من الأتباع قد أخلُّوا بهذه القاعدة ولم يزنوا أقوال الأئمة بهذا الميزان ، فخالفوا بهذا وصية الأئمة وخالفوا السنة في بعض ما سنَّته .
عرض موجز لبعض أجزاء الكتاب :
* في "مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية" ج2 ، يتحدث المؤلف عن دواعي مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية في عصر الرسالة ولقائها الرجال . ويعدد هذه الدواعي المستنبطة من كتب الصحاح والتي تتراوح ما بين تيسير الحياة وتنمية شخصية المرأة وطلب العلم والخوض في العمل المهني والنشاط السياسي ، إلى الاشتراك بالدعوة إلى دين الله والجهاد في سبيله .
وفي هذا السياق فهو يقرر أمرًا وهو أن انطلاق المرأة ومشاركتها في الحياة الاجتماعية وما يترتب عليه من لقاء الرجال هو "نهج" قررته الشريعة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو سنة من سنن الحياة الإنسانية ، أي من سنن الاجتماع البشري منذ القدم تمامًا كسنة الزواج التي لا تمضي الحياة إلا بإعمالها .
والمؤلف عندما يتحدث عمّا يسمِّيه "الاختلاط المشروع" فهو يسوق له آدابًا مستمدة من القرآن والسنة تقريرًا وممارسة . ويسوق إلى جانب ذلك - نظرًا لغرابة الأمر في الذهنية الإسلامية المتوارثة - وقائع كثيرة عن هذه المشاركة الاجتماعية للمرأة بمختلف ميادينها تمتد من عهود الأنبياء عليهم السلام إلى عصر الرسالة المحمدية ، منها على سبيل المثال لا الحصر : تبادل التحية بين الرجال والنساء ، المشاركة واللقاء في المسجد : في طلب العلم ، في الاحتفالات والولائم ، في الزيارة ، خلال الضيافة ، عند تبادل الهدايا بين الرجال والنساء ، في عيادة المرضى ، خلال السفر ، في السكنى ، خلال بذل المودة وحسن الرعاية ، خلال البحث عن الزوج وعند الخطبة وعقد الزواج ، وغيرها كثير .
كما يخصص فصلًا - إلى جانب فصول أخرى لموضوعات أخرى لم نذكرها - عن مشاركة المرأة المسلمة في النشاط السياسي والمعالم الشرعية لهذه المشاركة .
* في "لباس المرأة المسلمة وزينتها" عند لقائها الرجال الأجانب ، يطرح المؤلف سؤالًا منهجيًّا هو : لماذا لم يكن عنوان هذا الجزء "حجاب المرأة المسلمة" ؟ وبعد أن يجيب على هذا السؤال المهم يتحدث عن مقاصد الشريعة في شروط لباس المرأة ويتساءل : هل فرضت الشريعة طرازًا معينًا أو لونًا محددًا لزي المرأة ؟
وبعد أن يخصص المؤلف فصلًا - هو الفصل الثالث - للتدليل على أن سفور وجه المرأة كان هو الغالب في مجتمع المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، يخصص الفصل الرابع لقرائن إضافية على مشروعية هذا السفور منها : أن وجوب ستر الوجه لم يرد في نص صريح في القرآن ولا في بيان واضح من السنة ، وأن وجوب ستر الوجه لو صح لانتشر ، ولأصبح مما يعلم من الدين بالضرورة ، وأن كشف الوجه من سنن الحياة الإنسانية ، وأن حاجات الحياة تدعو إلى هذا الكشف الذي يعين على تحقيق مصالح عديدة .
* "في حوارات مع المعارضين لمشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية " ولقائها الرجال ، يحاور المؤلف حول اعتراضات على أدلة مشروعية المشاركة واللقاء ، وحول أدلة تساق لحظر المشاركة واللقاء ، وحول بعض أقوالٍ للمعارضين . ثم يخصص الفصل الثاني للحوار حول الحجاب الوارد في قوله تعالى : {فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب : 53] ، وإثبات خصوصيته بنساء النبي صلى الله عليه وسلم .فيحدد معنى الحجاب ويسوق الأدلة على خصوصيته بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة ، مع أقوال لبعض الفقهاء ونقاش لخصوصيته في ضوء أصول الفقه .
ثم يخصص الفصل الثالث للحوار حول الغلو في تطبيق قاعدة "سد الذريعة" التي يصول فيها ويجول عهده في الكتاب كله ، فيعرض لنهج التشريع الإلهي والاعتدال في سد الذريعة في ذكر بعض معالم التشريع الإلهي ، وبعض صور التطبيق في العهد النبوي التي منها استمرار مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية في العهد النبوي رغم وقوع حوادث مؤسفة ، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم ثم صحابته من بعده التشدد بعامة في مجال فتنة المرأة بخاصة .
وبعد أن يعرض لتقريرات العلماء بشأن قاعدة سد الذريعة ، يتحدث المؤلف عن غلو "الخلف" بشأن هذه القاعدة والعوامل المؤدية إلى هذا الغلو ، كالغفلة عن شروط تطبيق القاعدة وسوء فهم معنى فتنة المرأة وسوء الظن بها واستضعافها والغيرة المريضة ، ودعوى فساد الزمان وما ساند ذلك من آيات كريمة وأحاديث شريفة أسيء تأويلها إلى جانب الضعيفة والموضوعة من الأحاديث .
* في "الثقافة الجنسية للزوجين" وتحت عنوان "هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج والاستمتاع" الآتي في الفصل السابع من هذا الجزء ، يتساءل المؤلف عن سبب الحساسية المفرطة إزاء المتعة الجنسية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول " "إذا كان لدينا حساسية مفرطة إزاء المتعة الجنسية بصفة عامة ، فهي أشد وأطغى إذا تعلق الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم . وهذا كله أمر مؤسف ، وهو مظهر من مظاهر تخلف المسلمين عن فهم دينهم .. فلو فهمنا ديننا من نصوصه الثابتة الصحيحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان هناك مجال للحساسية المفرطة .. ورحم الله أسلافنا الأولين ، فقد رأوا من الصدق والأمانة والإحسان أن يحفظوا لنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الجنس ، خلال سلسلة طويلة من الرواة بعضها رجال وبعضها نساء ، تمامًا كما حفظوا لنا سنته في العبادات وجميع المعاملات ، فكلها سنة واجب نقلها ، وكلها علم واجب تبليغه .. والسنة كما نعلم تشمل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، وعلى ذلك فأفعاله في مجال الاستمتاع جزء من السنة ، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعلِّم المسلمين كل شيء يفيدهم في حياتهم ، وقد وعى المشركون هذا الحرص وصرّحوا به "
وانطلاقًا من هذا الفهم وهذا التصور للجانب الجنسي في الحياة ينطلق المؤلف في هذا الجزء الأخير من كتابه ليتحدث بصراحة ووضوح عن الثقافة الجنسية وعلاقة الحياء بها في مجتمعاتنا ، حيث تسود المفاهيم الخاطئة حول هذا الموضوع الذي يكتنفه الغموض والالتباس ، وذلك نتيجة أوهام وتقاليد بالية ما أنزل الله بها من سلطان ، قد توورثت جيلًا بعد جيل ، وكأنها دين نستمسك به ، ونلقى الله عليه ، من غير أن ندري أننا أسرفنا على أنفسنا واتبعنا أهواءنا وخالفنا شرع الله الحكيم ، وهدي نبينا الكريم ، وسيرة أصحابه الأطهار .
وهو يزجي لذلك نصوصًا من القرآن والسنة توفر قدرًا من الثقافة الجنسية بما فيها تلك الاستفتاءات المتبادلة بين الرجال والنساء في هذه الأمور .
ثم يخوض المؤلف في فصول هذا الجزء ليتحدث عن تقرير الشريعة قوة الشهوة الجنسية ، وتيسيرها لمجالات ممارسة المتعة الجنسية والآداب الواجبة المتعلقة بها .
أما الفصل السادس فيخصصه المؤلف للشريعة وفنون الاستمتاع حيث يتحدث عن الأوهام الباطلة التي تحاصر الاستمتاع الطيب ويعرض لصور من فنون هذا الاستمتاع لينتهي في الفصل الثامن إلى ذكر نماذج من أقوال الفقهاء في هذه الثقافة المتوارثة .
وأخيرًا هل أوفينا الكتاب حقه ؟ قطعًا لا .
إلا أنه لا يسعني إلا أن أردد مع الشيخ الداعية محمد الغزالي في تقديمه له : "ودِدتُّ لو أن هذا الكتاب ظهر من عدة قرون" .
ـــــــــــ
نشر في مجلة الإنسان المعاصر – الإصدار 3 شتاء 1416 ه / أيار - 1996م.