الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمي العربي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد.. فإن نظرة واحدة إلى واقع الأمة العربية والإسلامية اليوم تكفي لنتبين منها أننا لا نشارك في الإبداع الحضاري، العلمي والتقني والثقافي على وجه الخصوص، بالقدر الذي يتناسب مع تاريخنا المجيد؛ إذ ليس إسهاما حضاريا أن ننقل عن المتقدمين في الشرق والغرب علومهم وأجهزتهم وتقنياتهم، حتى لو بلغنا غاية المهارة في حفظها ومحاكاتها، وليست معاصرة أن نأخذ عنهم ما أصابهم من قلق وسأم وانهيار في القيم.
والطريق السليم لابتعاث النهضة الحضارية المنشودة لأمتنا لن يبدأ إلا بالفهم الواعي لقانون التفاعل بين الحضارات، والتكامل بين الثقافات، القائم على تبادل العطاء، مع الاحتفاظ بالخصوصيات الذاتية وتوظيفها بأفضل طريقة لتنشيط كل الطاقات والقوى الدافعة لإحراز التقدم والرقي.
وفي ضوء هذا السياق التاريخي والحضاري الشامل، يكون التأصيل المعرفي مقوما أساسيا من مقومات البناء والتنمية المستدامة، ذلك لأن تأصيل الثقافة الذاتية لأية أمة وتعزيز قيمها في نفوس النشء يجعل سلوك الفرد متوافقا مع فكر مجتمعه، وعاكسا لقيمه ومعتقداته، ولا يزال التراث الثقافي العربي قادرا على التأثير والإسهام في ابتعاث حضارة جديدة ومتجددة، إذا ما أدركنا الحاجة الماسة إلى إحيائه ونشره وتفسيره ونقده، في ضوء معطيات العصر وفلسفاته، وتوقعات المستقبل ومفاجآته، وعندئذ نكون قد جعلنا من التراث والتاريخ علما حداثيا مستقبليا، وليس مجرد قصص لتزجية الفراغ والبكاء على الأطلال، ويكون ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة امتدادا طبيعيا لما أنجزته الحضارة العربية والإسلامية، التي كانت بدورها امتدادا لحضارات قديمة، فالحداثة التي تنشدها أي أمة ما هي إلا عملية حضارية ممتدة تاريخيا في الزمان من الماضي إلى المستقبل.
والكتاب الذي بين أيدينا يحاول أن يلقي الضوء على ما يمكن أن يقدمه التراث الثقافي العربي للأمة في العصر الحاضر لكي يمول به المستقبل، ويطرح مقاربة معرفية ناقدة لهذا التراث من أجل إبراز عناصره البنيوية، وبيان دوره التنويري في تشكيل "الحداثة" العربية الإسلامية الجديدة، مثلما سبق وأن أسهم في ابتعاث النهضة الأوربية الحديثة، ومثلما تسعى كل أمة ناهضة في عصرنا الحاضر إلى أن تصنع "حداثتها" للحاق بركب المتقدمين!
هذا إلى جانب تعريف الأجيال بأهم الإنجازات والمآثر التي خلفها الأجداد، وما تزال محتفظة بقيمتها المعرفية والمنهجية في تاريخ العلم والحضارة. هذا، والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد فؤاد باشا ـ مدينة الشيخ زايد – الجيزة ربيع الأول 1438هـ - نوفمبر 2016م