"ما أجدرنا ـ نحن القومة على الثقافة العربية ـ أن ننهض بعبء نشر ذلك التراث وتجليته، ليكون ذلك وفاء لعلمائنا، ووفاء لأنفسنا وأبنائنا".. هكذا صدر الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله كتابه (تحقيق النصوص ونشرها*)، الذي يعد أول كتاب عربي يعالج فن تحقيق النصوص ويضع مناهجه ويبحث مشكلاته.
ولم يمل الأستاذ عبد السلام هارون طوال حياته من المناداة بأن تلتزم كلياتنا الجامعية ذات الطابع الثقافي الإسلامي تكليف طلبة الدراسات العالية أن يقوم كل منهم بتحقيق مخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة التي يتقدم بها.
تحدث الأستاذ هارون عن الرواية الشفوية العربية واقترانها منذ اللحظة الأولى بالحرص البالغ، والدقة الكاملة والأمانة، فالتزم القوم الأمانة والحرص فيها حين يروون كلام الله وكلام الرسول، بل حين يروون أشعار الجاهليين والإسلاميين وأيامهم ووقائعهم.
وبعد انتشار الكتابة بينهم بدعوة الإسلام وبصنع الإسلام، كتبوا القرآن كله، ولم يكتبوا من الحديث إلا قليلا مخافة أن يختلط الوحي بحديث الرسول في أثناء نزول الكتاب، فكان القرآن الكريم أول نص إسلامي مكتوب يصل إلينا.
ثم استفاض الإسلام واتسعت رقعته، وظهر التدوين والتصنيف في الحديث وفي النحو، وظهرت الكتب في شتى الفنون الدينية محتفظة بالطابع الذي غلب على المحدثين، وهو إسناد الرواية إلى مؤلف الكتاب، وسرت بين المؤلفين قواعد ألزموا أنفسهم بها في السماع والرواية، والقراءة على الشيخ والإجازة، والمكاتبة والوجادة، وهي ذات القواعد التي تكفلت بها كتب مصطلح الحديث فيما بعد بتفصيلها وبيان شرائطها.
كل هذا كان مقروناً بالحرص على الضبط والتصحيح والإسناد حتى القرن الثامن الهجري، كما قال ابن خلدون في مقدمته.
وتحدث الأستاذ هارون عبد السلام عن الخطوط والورق والوارقين، وكيف كان العلماء يستعينون بالوارقين في التأليف، لما لهم من صنعة ومران في سرعة الخط وحسنه.
ولم يخل هذا الميدان من عنصر المرأة، إذ نجد من أسمائهن "ثناء" الكاتبة جارية ابن فيوما، ذكرها ابن النديم فيمن كتبوا الخطوط الأصيلة الموزونة.
ورتب الأستاذ عبد السلام هارون أصول المحققات في درجات:
(1) فأولها نسخة المؤلف الأم، وهي التي وصلت إلينا حاملة عنوان الكتاب واسم مؤلفه، وجميع مادة الكتاب على آخر صورة رسمها المؤلف وكتبها بنفسه، أو يكون قد أشار بكتابتها، أو أملاها، أو أجازها، ويكون في النسخة مع ذلك ما يفيد اطلاعه عليها أو إقراره لها.
(2) وتليها النسخة المنقولة منها، ثم فرعها وفرع فرعها وهكذا.
(3) والنسخة المنقولة من نسخة المؤلف جديرة بأن تحل في المرتبة الأولى إذا أعوزتنا نسخة المؤلف، وهي كثيرا ما تعوزنا.
(4) وإذا اجتمعت لدينا نسخ مجهولات سلسلة النسب كان ترتيبها محتاجاً إلى حذق المحقق. والمبدأ العام أن تقدم النسخة ذات التاريخ الأقدم، ثم التي عليها خطوط العلماء.
والجوانب الجديرة بعناية فاحص المخطوطة:
دراسة ورقها ليتمكن من تحقيق عمرها، ودراسة المداد ليتضح له قرب عهده أو بعده، وكذلك الخط، فيفحص اطراد الخط ونظامه في النسخة، ويفحص عنوان الكتاب وما يحمل صدره من إجازات وتمليكات وقراءات، وقد يجد في ثنايا النسخة ما يدل على قراءة بعض العلماء أو تعليقاتهم.
وأن ينظر إلى أبواب الكتاب وفصوله وأجزائه، حتى يستوثق من كمال النسخة وصحة ترتيبها، وأن ينظر في خاتمة الكتاب لعله يتبين اسم الناسخ وتاريخ النسخ وتسلسل النسخة.
وعليه أن يعي أن لكل مخطوط ظروف خاصة تستدعي دراسة خاصة.
والكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه.
وليس معنى تحقيق الكتاب ـ كما يؤكد عبد السلام هارون ـ أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوباً هو أعلى منه، أو نحل كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، أو أوفق.
أو ينسب صاحب الكتاب نصاً من النصوص إلى قائل وهو مخطىء في هذه النسبة فيبدل المحقق ذلك الخطأ ويحل محله الصواب، أو أن يخطىء في عبارة خطأ نحوياً دقيقاً فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عباراته إيجازاً مخلاً فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال.
أو أن يخطىء المؤلف في ذكر علم من الأعلام فيأتي به المحقق على صوابه.
ليس تحقيق المتن تحسيناً أو تصحيحاً، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير.
وإذا فطن المحقق إلى شيء من ذلك الخطأ نبه عليه في الحاشية أو في آخر الكتاب وبين وجه الصواب فيه، وبذلك يحقق الأمانة، ويؤدي واجب العلم.
أما الشواهد من القرآن الكريم فلما لها من تقدير ديني، لابد أن توضع في نصابها.
وأما نصوص الحديث فإنها يجب أن تختبر بعرضها على مراجع الحديث، لقراءة نصها وتخريجها إن أمكن التخريج.
وهذا أيضاً هو واجب المحقق إزاء كل نص من النصوص المضمنة، من الأمثال والأشعار ونحوها.
وتحت عنوان فرعي هو "مقدمات تحقيق المتن" ساق الأستاذ عبد السلام هارون مقدمات رئيسية لابد منها وهي:
(1) التمرس بقراءة النسخة، فإن القراءة الخاطئة لا تنتج إلا خطأ. وهذا يحتاج إلى خبرة خاصة تكتسب بالمرانة وبالرجوع إلى كتب الرسم الإملائي. ومن أجمع الكتب في ذلك "المطالع النصرية" للشيخ نصر الهويني.
(2) التمرس بأسلوب المؤلف، وأدنى صوره أن يقرأ المحقق المخطوطة المرة تلو المرة، حتى يخبر الاتجاه الأسلوبي للمؤلف، ويتعرف خصائصه ولوازمه.
وأعلى صور التمرس بأسلوب المؤلف أن يرجع المحقق إلى أكبر قدر مستطاع من كتب المؤلف، ليزداد خبرة بأسلوبه.
(3) الإلمام بالموضوع الذي يعالجه الكتاب، وهذا يتحقق بدراسة بعض الكتب التي تعالج الموضوع نفسه أو موضوعاً قريباً منه.
(4) الاستعانة بالمراجع العلمية التي لها علاقة مباشرة بالمخطوط، كالشروح والمختصرات والتهذيبات، وهناك الكتب التي اعتمدت في تأليفها اعتماداً كبيراً على المخطوط (الكتاب) فهي كثيراً ما تحتفظ بالنص الأصلي للكتاب الأول.
ويستعين كذلك بالمراجع اللغوية، كمعاجم الألفاظ، والمعاني، والأسلوب، واللغات.
ويذكر هارون أن التصحيف والتحريف هما أكبر آفة منيت بها الآثار العلمية وتنشأ من تشابه صور الخط وتشابه الحروف في النقط. ومن أقدم كتب التصحيف والتحريف ما صنعه أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري وما صنعه الحافظ علي بن عمر الدارقطني.
ومن المستحسن ألا يترك المحقق الكتاب غفلاً من التعليقات الضرورية التي تجعل القارىء مطمئناً إلى النص، ويقتضي التعليق التعريف بالأعلام الغامضة أو المشتبهة، وكذلك بالبلدان التي تحتاج إلى تحقيق لفظي أو بلداني، وغيرذلك مما يستعصي معرفته على خاصة القراء.
ومن جميل العناية بهذا الفن بعد مراعاة الأمانة والدقة، مراعاة حسن الإخراج وهذا يستلزم:
ـ العناية بتقديم النص ووصف مخطوطاته.
ـ العناية بالإخراج الطباعي.
ـ صنع الفهارس الحديثة.
ـ الاستدراكات والتذييلات.
فتقديم النص يقتضي التعريف بالمؤلف، وبيان عصره، وما يتصل به من تاريخ، ويقتضي كذلك، عرض دراسة خاصة بالكتاب وموضوعه، وعلاقته بغيره من الكتب التي تمت إليه بسبب من الأسباب.
وتقديم دراسة فاحصة لمخطوطات الكتاب، مقرونة بالتحقيق العلمي الذي يؤدي إلى صحة نسبة الكتاب والاطمئنان إلى متنه.
ويجب أن يكون الأصل المعد للنشر دقيقاً مراجعاً تمام المراجعة، مراعىً في كتابته الوضوح والتنسيق وأن يكون مستوفياً لعلامات الترقم.
ويستحسن أن يستعان في مراجعة النص المراجعة الأخيرة بعين أخرى غير عين المحقق، لأن القارىء الغريب أيقظ نظراً، وأدق انتباهاً.
وفي الختام ينبه الأستاذ عبد السلام هارون إلى أن عمل المحقق إنما هو تأدية نص المؤلف إلى القارىء كما صنعه المؤلف، لا كما يستحسنه المحقق.
أي أن يحتفظ للمؤلف بهناته وأخطائه. ومن هنا يخطىء كثير ممن يتصدى لتحقيق النصوص فيخلقها خلقاً جديدا طريفاً لم يدر بخلد صاحبها.
ومهمة المحقق إزاء هذه الأخطاء التي لا يرتاب في وقوعها من المؤلف أن يثبتها كما هي، مشيراً في الحواشي إلى ما يراه من رأي في صوابها.
إن تراثنا العلمي كنز ينبغي أن نقلبه المرة تلو المرة، كي نعثر في كل مرة على ما يفيد العلم و الحضارة والإنسان. والله يقول الحق وهي يهدي إلى سواء السبيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*) الطبعة الرابعة، مكتبة الخانجي بالقاهرة 1977م، وكانت الطبعة الأولى عام 1954م.