نظرًا لأهمية هذا العهد ومكانته المتميزة بين الوثائق الإسلامية المتصلة بعصر صدر الإسلام، فقد حظي على مرّ التاريخ بشروح كثيرة، وقد نُسخ هذا العهد ضمن الوثائق الإسلامية التراثية في العصر العباسي بخط أشهر الناسخين آنذاك وهو ياقوت المستعصمي[1].
كما أنه تُرجم إلى لغات عديدة، فقد تُرجم قديمًا إلى الفارسية والتركية وحديثًا إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، بالإضافة إلى وجود ترجمات له بالأردية والتاميلية والبنغالية، وهذا يدلّ على سعة انتشاره بين المسلمين.
وجدير بالذكر أن «منظمة الأمم المتحدة» في عصرنا الحاضر، قد اعتمدت هذا العهد بوصفه «رسالة قيّمة» من أوائل الرسائل الحقوقية التي تحدد الحقوق والواجبات بين الدولة والشعب، وقال الأمين العام للأمم المتحدة: «إن في العهد عبارة يجب أن تعلّق على كل المؤسسات الحقوقية في العالم وهي: (.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق..)».. هذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية هذا العهد العظيم في مؤسساتها المختلفة، كما رشحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرت سنتين في الأمم المتحدة صوتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر واحدا من مصادر التشريع للقانون الدولي.
وبعد الاطلاع على أغلب شروح الكتاب، لم نجد شرحًا منها تتبع عبارات العهد بمفرداتها وتراكيبها تفسيرًا شاملًا دقيقًا يحافظ على إبراز الفكرة الرئيسية وما بها من أفكار فرعية وينبه على ما تحويه من إشارات بلاغية مع بيان الخلفية التاريخية في ظل الثقافة السائدة آنذاك.
وحينما طُرحت فكرة هذا الكتاب في إحدى اجتماعات خبراء «مركز تحقيق التراث العربي» بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، أجمع السادة الخبراء أعضاء المركز على أهمية إصدار كتاب يعني بالشرح المعاصر لهذا العهد، يجتهد شارحه في إتمام جهود السابقين من الذين تصدوا لشرح العهد، فكان لي شرف هذا التكليف ولله الحمد والمنّة.
وقد حاولت –قدر جهدي- أن أكون وسيطًا أمينًا بين الأسلوب التراثي الرصين واللغة العربية المعاصرة بما لا يخل بفصاحة الكلمات وبلاغة الأسلوب في الجانبين.
ولا شك أن أسلوب الإمام عليّ –رضي الله عنه- في الذروة العليا من البلاغة بعد كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت إلى أداء تلك الرسالة إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.
[1] ) ياقوت المستعصمي أو جمال الدين أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي الطواشي البغدادي، الملقّب بـقِبْلَة الكُتّاب، خطّاط شهير وكاتب وأديب من أهل بغداد، رومي الأصل، من مماليك المستعصم بالله آخر خلفاء العباسيين، توفي عام 696 هـ1296 م. من آثاره "أسرار الحكمة "، و" أخبار وأشعار" كما نسخ عددًا كبيرًا من الكتب والمصاحف، بالإضافة إلى كثير من القطع الخطية وانتهت إليه الرئاسة في الخط المنسوب. (انظر ترجمته في: فوات الوفيات 4/263، والبداية والنهاية 14/6، وشذرات الذهب 7/773، والعبر 5/390).