محمود سالم الشيخ.. صورة من قريب
نشر: السبت 17 فبراير 2024م
عبد الرحمن هاشم
في العام 1940م، وتحديدا في قرية النوافعة مركز فاقوس محافظة الشرقية، ولد محمود سالم الشيخ حيث كان والده المقاول يعمل في تلك المنطقة آنذاك، ثم حملته أمه غندورة إلى القنايات مركز الزقازيق، وهو سابع ولد لأبيه؛ الستة الأول من أمه حسيبة، وهو وسعدية (فاطمة) وزينب من أمه غندورة.
أما والده فقد كان شيخا مقاولا من حفظة كتاب الله وكان يلقبه الناس بالشيخ سالم الشيخ، ولذلك كان يقول باعتزاز: "أنا سالم بين شيخين".
نشأ محمود في أحضان أسرته التي حرص ربها الشيخ/ سالم الشيخ على الوصول بأفرادها إلى بر الأمان وذلك عبر تربيتهم على الأصول وتعليمهم التعليم الذي يرفع رأسهم بين الناس ويفتح لهم أبواب الرزق والسعي بشرف في هذه الحياة.
وكان لمحمود النصيب الوافر من هذه التربية وهذا التعليم. لقد بدأ من "كتّاب الشيخ عبده" بقرية القنايات، وانتهى به المآل إلى الجلوس على مقعد "أستاذ فقه اللغات الرومانسية وتحقيق النصوص" بجامعة فلورنسا، ومدير قسم فقه اللغات الرومانسية بالمجلس القومي للبحوث بإيطاليا، ولم يزل هناك قابعا يضع لمساته الأخيرة على ترجمة "مقدمة ابن خلدون" إلى اللغة الإيطالية.
وقدَّم ما يزيد عن 75 نصا محققا من اللغات الرومانسية، تتسابق على اقتنائها المكتبات ومراكز البحوث والدراسات على مستوى العالم.
و"حالة" محمود سالم الشيخ؛ ذلك المصري القروي القناياتي البسيط الذي كانت أحلامه لا تتعدى الحصول على مؤهل عال من الجامعة المصرية، فإذا به يناظر علماء أمثال: فرناند بروديل، وأندريه ماندوز، وكارلو باتيستي، وجوفان بتيستا بيللجريني، وإذا به يلتقي شعراء أمثال: أونجريتي، ومونتالي، ولوتزي، وبيررو، وإذا به يحاور سينمائيين أمثال: ميكاييل أنجلو أنطونيوني، وبير باولو بازوليني، وشيزاري زافاتيني، ومونيكا فيتي، وريتشارد هاريس، وإذا به يتعاون مع سياسيين أمثال: جورجو لابيرا (عمدة فلورنسا)، وجورجو أمندولا أورومانو برودي (رئيس وزراء إيطاليا ثم رئيس الاتحاد الأوروبي)، وجورجو نابوليتانو (وزير الداخلية ثم رئيس الجمهورية الإيطالية) الذي منحه "جائزة رئيس الجمهورية" كأفضل فقيه للغات الرومانسية، عندما كان نابوليتانو رئيسا لإيطاليا، وفضلا عن ذلك، إذا به يلتقي الملك فاروق، ومن بعده نجله الأمير أحمد فؤاد الثاني، ولا ننسى علاقته الوثيقة ببابا الفاتيكان الحالي، البابا فرنسيس.
ومحمود سالم الشيخ مشهور جدا في أوروبا وكذلك في الولايات المتحدة وكندا أكثر من بلاد العرب، ومع ذلك فهو يستنكف أن يشير إليه أحد إلا بما وصف به نفسه "صنايعي يجيد صنعته لا أقل من ذلك ولا أكثر".
هذه "الحالة" تكشف لنا أن بمقدور هذه الأمة المصرية أن تسبح في بحر من القيم الأخلاقية وأن تصبح قوة علمية تنافس بقية دول العالم المتقدم، متى اهتم قادتها باحتضان النوابغ من أبنائها، وتهيئة المناخ التربوي التعليمي الصحي المتوافر في كبرى الجامعات الأوروبية.
وأعتقد أن الحياة البسيطة غير المعقدة، التي حرص محمود سالم الشيخ أن يحيياها، قد أهلته لينال هذه المكانة العلمية والمجتمعية الرفيعة. لقد آمن بأن الأزمة التي تنغص حياة معظم الناس مصدرها الطمع، فزهد فيما في أيدي الناس. زهد في أموال الخليج، وكم عُرضت وما زالت تعرض عليه، وزهد في الجوائز والتكريمات، وزهد في اللقب، فأحب شيء إلى نفسه وضع اسمه الثلاثي (محمود سالم الشيخ) بلا لقب يسبقه أو يلحقه، وهذا من تواضعه وأصالته معا.
يجد راحته في الحياة البسيطة الهادئة بعيدا عن الأضواء والضوضاء، ويحب الجلوس إلى الشباب ليشكل جزءا من شخصياتهم من خلال تجاربه وخبراته وعلمه
وبرغم أنه أصبح شخصية علمية بارزة، لم يهجر حياته القديمة تماما، فما زال يحب قضاء الخميس والجمعة في مسقط رأسه في "القنايات" مع أختيه طوال فترة أجازته في مصر. تعجبك فيه روح الشباب، والانفتاح على الأفكار الجديدة، واحترام الصغير قبل الكبير، والإبداع الذي يلازمه عدم العجرفة. إذن، هو يحيا القديم جنبا إلى جنب مع الحديث، ومن محاولة فهمه للماضي يكون أكثر قدرة على التطلع للمستقبل والتخطيط له.
ولعل هذا هو ما جعله يعكف على مقدمة ابن خلدون مستهدفا ترجمتها إلى الإيطالية ومستكشفا في الوقت نفسه مزيدا من الحلول العلمية المتوارية والمستنبطة من هذا النص الإبداعي القديم!