بقلم
أماني حسن الشلقاني
على الرغم من المجهودات التي يقوم بها بعض الأفراد والجماعات في مختلف المراكز الأوربية إلا أن دراسة المخطوط العربي دراسة مخطوطية كوديكولوجية لاتزال في بداياتها الأولى، فإذا كان القدماء يشيرون عرضًا في تصانيفهم ومصادرهم إلى بعض عناصر علم المخطوطات العربية، فإن المحدثين لم يستطيعوا حتى الآن ملء هذا الفراغ إذ لم يدرسوا المخطوط العربي باعتباره قطعة مادية تمكن الباحثين في مجال الفيلولوجيا من الكشف عن عدد من القضايا الفكرية والحضارية والتاريخية والاقتصادية قد لا يمكن اكتشافها أو استنباطها إذا اقتصر على تناول متون هذه المخطوطات دون أوعيتها المتكونة من أسفار الورق وغيره.
أما المخطوط الغربي فقد خطا خطوات كبيرة في هذا المجال مما جعل الاقتداء بعلماء الغرب والاستفادة من تجاربهم في علم المخطوطات ضربة لازب بالنسبة للباحثين من العرب والمستشرقين المهتمين بهذا العلم على قلتهم.
هناك موضوعات في علم المخطوط لم تدرس حتى الآن دراسة مخطوطية ،بل مازالت حقلاً بكرًا في التراث العربي ، منها قضية وقف الكتب ودوره في تأريخ المخطوط غير المؤرخ ، وكذلك مسألة الرموز والاختصارات في المصنفات القديمة وعلى الأخص منها كتب الحديث ، ومسألة الكراس أو الكراسة ، وتقنية التعقيبة.
تعد التعقيبة إحدى أهم الطرق التى استخدمها العرب في بنية مخطوطاتهم ، واستخدموها خاصة من أجل الحفاظ على ترتيب المخطوط كراساته وملازمة وأوراقة ، للأمن من الخلط أو الخرم والضياع.
يعرف الكاتب التعقيبة بأنها : عبارة عن نوع من الترقيم استعمله القدماء لترتيب المؤلفات من جهة ، ولمساعدة المختصين في صناعة المخطوط كالمترجمين والمفسرين وسواهم في ترتيب ملازم المخطوط من جهة أخرى ، ولم توجد التعقيبة في المخطوطات العربية فقط ، بل وجدت في مخطوطات اللغات الأخرى.
يحاول الكاتب التعرف على بداية ظهور التعقيبة فمن خلال الأبحاث الكوديكولوجية الخاصة بهذه الظاهرة يتضح أن التعقيبة كانت معروفة في اللغات السامية وفي بعض اللغات الهندية الأوربية في العصر القديم واختفت في القرون المسيحية الأولى وطوال العصر الوسيط لتعود إلى الظهور خلال النهضة الأوربية الأولى في القرن الثاني عشر الميلادي ، ثم إلى الانتشار في مختلف اللغات الغربية قبيل عصر النهضة الحديثة ، كما ظهرت أيضا في اللوحات الطينية ، فقد انتشرت التعقيبة في مخطوطات اللغات القديمة .
حيث اعتاد النساخ أن يعيدوا كثابة أخر سطر من اللوحة السابقة في اللوحة التي تليها وذلك ليتمكن القارئ من قراءة متتابعة، والمتتبع لهذه الظاهرة في المخطوطات القديمة يلاحظ أن استعمالها ينتهي بانتهاء العصر القديم حيث إنها تختفي في العصر الوسيط ولم تعد إلى الظهور في مخطوطات الغرب إلا في القرون القليلة التي سبقت عصر النهضة الحديثة .
يلاحظ المختصون في الكوديكولوجيا الإغريقية مثلاً أن المخطوطات اليونانية الوسيطية كانت مرقمة ولم تعد إلى نظام التعقيبة إلا في عصر النهضة باستثناء الحالات الشاذة التي ترجع إلى ما قبل هذا العصر بقليل ، ويؤكد المختصون أن العودة إلى هذا النظام كان نتيجة الاحتكاك الذي تم بين اليونان والثقافة اللاتينية بحيث كان النساخ اللاتينيون في بداية العصر الوسيط يرقمون الملازم لترتيب المخطوطات برقم في ظهر أخر ورقة الملزمة أو في وجه أول ورقة منها.
وفي أواسط هذا العصر أصبح يلاحظ في المخطوطات اللاتينية استعمال الحروف محل الأرقام ويسمى هذا الاستعمال بوضع العلامة.
بعد القرن العاشر الميلادي حيث بدأت أوربا تستيقظ من سباتها وتحتك بمختلف الحضارات والثقافات كالثقافة العربية مثلاً ، فأصبح يلاحظ في مخطوطاتها استعمال التعقيبة وهي كتابة كلمة أو كلمتين من الملزمة التالية على ظهر أخر ورقة من الملزمة السابقة ، ثم يتساءل الكاتب عن السبب الذي دفع النساخ اللاتينين إلى الانتقال من الترقيم بالأرقام ثم الحروف إلى الترقيم بالتعقيبة ؟ هل كان ذلك بمحض المصادفة أم حدث تأثر وتأثير بين هذه الشعوب ذات اللغة اللاتينة أو اللغات المتفرعة عنها وبين أجناس أخرى كانت تستعمل هذه التقنية؟
إن الكوديكولوجيين الغربيين لم يدركوا العوامل التي دعت إلى التحول من نظام الترقيم والعلامة إلى نظام التعقيبة ، على كل حال فإن الشعوب الغربية قد أصبحت تستعمل هذه التقنية في مخطوطاتها في القرون الأخيرة من العصر الوسيط على غرار الشعوب السامية ، فإذا تم هذا عن طريق المصادفة فإنه يعتبر شيئا ممكنا عند علماء الانثروبولوجيا الذين يعتبرون أن تشابه التقنيات لايعني بالضرورة وجود علاقة بين المجموعات التي اهتدت إلى استعمالها ، فالطباعة بحروف متحركة مثلاً هي تقنية قد ظهرت عند شعبين مختلفين هما الصين وكوريا من جهة وأوربا من جهة ثانية ، ولم يعثر الباحثون على أية دلائل تثبت وجود علاقة ما بين هذه الشعوب التي اهتدت بمحض المصادفة إلى هذه الظاهرة .
أما إذا كان اهتداء هذه الشعوب إلى استعمال هذه التقنية في المخطوطات الغربية ناتجًا عن التأثر والتأثير فما هي اللغة التي سبقت إلى استعمال هذه التقنية ثم تكون قد أثرت في اللغات الأخرى؟
يذكر الكاتب أن الباحثون أجمعوا على أن استعمال نظام التعقيبة في العالم اللاتيني بدأ منذ القرن الحادي عشر الميلادي ، ويقول دسترى : إن التعقيبة ظهرت مع بداية جامعة باريز خصوصا فيما كان يسمى بالمخطوطات الجامعية ، كما أن أولى الدول الغربية التي استعملت مبكرًا التعقيبة في ترتيب المخطوطات هي أسبانيا وإيطاليا ، ومنهما انتقلت هذه التقنية إلى باقي باقي اللغات الغربية .
ويتساءل الكاتب أيضا عن كيفية اهتداء كل من إسبانيا وإيطاليا إلى نظام التعقيبة في المخطوطات في مدة مبكرة ، فقد يكون أثر أحدهما في الأخر ، أو قد يكون أخذ كلاهما من منبع ومصدر واحد ، فاحتمال ظاهرة التأثير والتأثر احتمال مستبعد لتباعد البلدين جغرافيا ، كما لايوجد علاقة ثقافية بين البلدين ، لذا يحتمل أن يكونا قد أخذا التعقيبة من مصدر واحد ، ووجد الكاتب أن للدولتين الأوربيتين معا علاقات اجتماعية وثقافية مع العرب منذ أواخر القرن الأول الهجري بالنسبة لإسبانيا ومنذ القرن الهجري الثاني بالنسبة لإيطاليا خاصة صقلية ، فقد كان يمتلك العرب نشاطًا ثقافيًا كبيرًا خاصة في مجال الترجمة التي لعبت دورًا أساسيا وفعالاً في تطوير الحضارة الغربية ، فمن المحتمل أن تكون طرق نساخة المخطوطات العربية بما في ذلك نظام التعقيبة قد دخلت ميدان النساخة في البلدين المذكورين باعتبار العلاقات المتينة التي كانت تربط بينهما وبين العرب .
يوضح الكاتب بداية ظهور التعقيبة في المخطوطات العربية فلم تظهر إلا بعد القرن الرابع الهجري وأن النساخ العرب المسلمين لم يستعملوا أية وسائل أخرى لترقيم المخطوط ، كما أشار الكاتب إلى مجموعة من المخطوطات القديمة ظهرت فيها التعقيبة قبل القرن الخامس بكثير حيث ثبت من خلالها أن التعقيبة أصيلة في المخطوط ولم تكن من إضافة ناسخ آخر كما قد يكون محتملا بالنسبة لمخطوطات آخرى .
لقد وصل إلينا أن الخزانة الظاهرية بدمشق تحتفظ بنسخة من "ديوان الفرزدق" بها تعقيبة وقد نسخت عام 331ه أي في القرن الرابع الهجري ، وكذلك تضم الخزانة الوطنية الفرنسية بباريز نسخة من كتاب " المدخل الكبير في علم أحكام النجوم" لأبي المعشر البلخي نسخها على المطرز عام 325ه وقد استعمل نظام التعقيبة لترتيب الكتاب ، وتحتفظ خزانة جستر بيتي بمخطوط بخط ابن البواب يحمل تعقيبة ، وقد نسخه عام 391ه إذا كانت هذه النماذج ترجع كلها إلى القرن الرابع الهجري فإن بعض ما بقي من مخطوطات القرن الثالث يحمل التعقيبة كذلك مثل كتاب "تاريخ ملوك العرب" لعبد الملك الأصمعي الدي نسخه ابن السكيت عام 243 ه ووجد أن التعقيبة وضعت بنفس خط الكتاب حيث يوجد تشابه تام بين الحروف، وقد يدل هذا على استعمال هذا النظام منذ البدايات الأولى للتأليف العربي ، كما يشير الكاتب إلى تنوع مناهج استخدام التعقيبة عند المؤلفين العرب القدامى ، فلا ينبغي اعتبار هذه التقنية ظاهرة عامة في المخطوط العربي حيث إن مجموعات أخرى من مخطوطات القرنين الثالث والرابع لاتحتوي على تعقيبة ، وقد يرجع السبب في ذلك إلى عدم استعمالها في جميع مراكز التنسيخ الشرقية أو لأنها ضاعت أثناء ترميم المخطوطات وتسفيرها في فترات متعاقبة من التاريخ حيث كان مقص المسفر لايعرف إلى الرحمة من سبيل .
وبتتبع مخطوطات القرنين الخامس والسادس الهجريين نجد أن بعضها يحمل تعقيبة بدون ترقيم وبعض أخر يحمل التعقيبة في بعض الأوراق أو في جزء من أجزاء المخطوط ، وصنف ثالث يستعمل التعقيبة حسب الكراريس بحيث لاتظهر التعقيبة إلا بعد إحصاء عشر ورقات ، وقد تظهر أحيانا فقط في ثلاث أو أربع ورقات في المخطوط كله ، وقد لانجد لها أثراً في كثير من مخطوطات هذا العهد ، وقد تكون عبارة عن حرف أو كلمة أو كلمتين أو عبارة وقد تكون حرفا في الجزء الأول من المخطوط وكلمة في الجزء الآخر ، ومن حيث شكل كتابتها فإنها تكون على العموم أفقية أو مائلة في أسفل الجهة اليسرى من الورقة أو في وسطها، وقد تجئ أحيانا عمودية ، كما جاء في كتاب " شرح الألفات " لأبي بشار الأنباري ، وكتاب " شرح منازل السائرين " للكاشاني المحفوظ كلاهما بمكتبة برلين الوطنية بألمانيا.
إن المخطوطات التي ترقم يتقدم فيها الترقيم سواء بالتعقيبة أو بالأرقام أو بالعلامة أو تلكم التي ترقم بواسطة التعقيبة ولم يبق منها إلا الحرف الأول من الكلمة ، هي مخطوطات أعيد تجليدها وترميمها عبر القرون في غالب الظن ، فلا يمكن أن ينسخ مخطوط ويجلد دون أن يلتجيء الناسخ أو الصانع إلى نوع من أنواع الترقيم المذكورة ليمكن تتبع قراءة الكتاب ، كما لايعقل أن تظهر التعقيبة في بعض الأوراق ولايظهر منها إلا الحرف الأول في بعضها الأخر، أما فيما يخص المخطوطات المرقمة بالتعقيبة في أشكال مختلفة فإن ذلك يرجع من تزامن النسخ ، ولايمكن الإجابة عن هذه التساؤلات بصفة نهائية إلا بالوقوف على مجموعات خطية متزامنة نسخت كل مجموعة منها في مركز ،فتحديد الزمان والمكان هو الشرط الذي يمكننا من دراسة الاستعمالات المختلفة التقنية ، كما يفتقر العديد من المخطوطات إلى مكان النسخ واسم الناسخ وتاريخ النسخ.
كما يرى أن تحديد أنماط التعقيبة في المخطوط العربي يدعو إلى وضع نوع من الفهارس أو الكشافات يسمى فهرس أو كشاف المخطوطات المنسوخة في المكان الواحد كما يصنع الأن في مختلف المكتبات والمراكز العلمية بالنسبة للمخطوطات المؤرخة التي وضعت لها فهارس خاصة ، هذه الكشافات هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن الكوديكولوجي أو المختص في علم المخطوطات من دراسة هذه التقنية وأنواع استعمالاتها في المخطوط العربي، وبدونها قد يتعذر البحث في هذا المجال.