عرض بقلم: أ. د. محمد فتحى فرج

     سار رابع الخلفاء الراشدين الإمام علىّ ـ كرم الله وجهه ـ على سنة النبى صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين الذين سبقوه؛ فقد دأب جميعهم على إسداء النصح لمن يولونهم أمر المسلمين من الولاة والحكام، ومنحهم من الوصايا والنصائح ما ينفعهم فى سياسة العباد وإدارة شئون البلاد التى يتولون أمرها.

وحينما ابتعث الخليفةُ مالك بن الحارث الأشتر واليا على مصر عهد إليه عهدا ضمَّنه أوامره ووصاياه حتى يفلح وينجح فى القيام بمسئولياته التى ابتعثه من أجلها فى الديار المصرية.

كتاب "مفتاح الرشاد فى سياسة العباد والبلاد":

    وحول هذا العهد يأتى هذا الكتاب الذى نعرض له هنا ليشرح لنا فيه مؤلفه ما تضمنه هذا العهد من قواعد ذهبية ثمينة، من عيون تراثنا الإسلامى، تحكم العلاقة بين الحكام والمحكومين وتضبطها بضوابط الشرع الحنيف اعتمادا على الأصول الثابتة من القرآن الكريم، وسنة رسولنا الأمين.

    وقد قام بشرحه والتعليق عليه بأسلوب عصرى، وبيان تفصيلى الأىستاذ الدكتور أنس عطية الفقى الداعية الإسلامى الكبير أستاذ اللغة العربية، وعميد المتطلبات الجامعية بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، ومدير "مركز تحقيق التراث" بهذه الجامعة الفتية.

   والكتاب من مطبوعات "مركز تحقيق التراث" بالجامعة، صدرت طبعته الأولى فى العام 2018 فى مجلد أنيق يقع فى 143 صفحة من القطع الكبير ليتضمن مقدمة تقع فى اثنتى عشرة صفحة، وشرحا ضافيا لما تضمنه العهد من وصايا وأوامر، وضع لها المؤلف/ الشارح عناوين أو بنود لكل جزئية فيه وصلت إلى ثلاثة وثلاثين بندا. وختم المؤلف كتابه بفصل ذكر فيه نص العهد كاملا يقع فى خمس عشرة صفحة.

قصة الكتاب كما أوضحها المؤلف:

   يقول المؤلف⁽¹⁾: ورد هذا العهد ضمن كتاب "نهج البلاغة" للشريف الرضىّ، وهو عبارة عن مختارات من كلام سيدنا علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه.

وقد بَهَر الكتابُ الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية فى القرن التاسع عشر الميلادى ـ كما ذكر فى مقدمته ـ فاعتبره من أعظم كتب العربية حيث يقول عنه: "ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضىّ ـ رحمه الله ـ من كلام سيدنا علىّ بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ جمع متفرقه وسماه بهذ الاسم "نهج البلاغة"، ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه، وليس فى وسعى أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه، ولا أن آتى بشىء فى بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار .."⁽²⁾.

    ولأهمية هذا العهد من وجهة نظرالإمام محمد عبده، فقد وافق لإحدى دور النشر أن تنشره فى كتيب خاص تحت عنوان: "مقتبس السياسة وسياج الرياسة" الذى طُبع فى العام 1317 هـ ، وقد أثبت الناشر على غلاف الكتاب: "شرحَ ألفاظه اللغوية حضرة صاحب الفضيلة العالم الكامل الأستاذ الشيخ محمد عبده أفندى مفتى الديار المصرية شرحا غاية فى الإيجاز والإفادة، وقد أذن حفظه الله بطبعه"⁽³⁾.

التعريف بالعهد:

   هذا العهد هو عبارة عن وصية مطولة كتبها سيدنا على ـ رضى الله عنه ـ إلى مالك بن الحارث الأشتر الذى أرسله الخليفة واليا على مصر، والذى وافته المنية وهو فى الطريق إليها عام 38هـ قبل أن يضطلع بمهمته.

   ويرى المؤلف أن هذا العهد هو من أقدم الوثائق السياسية فى الإسلام؛ إذ يتضمن قواعد الإدارة والإصلاح السياسى والاقتصادى، كما يتناول سُبل التواصل بين الحاكم والمحكومين فى ظل مبادئ الإسلام الحنيف⁽⁴⁾.

    أما مُسوِّغات اعتماد العهد نصا إسلاميا منسوبا إلى سيدنا على كرم الله وجهه فقد أوضحه المؤلف/الشارح بقوله:

أولا: مضامين هذا العهد منبثقة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتهاد الإمام علىّ رضى الله عنه.

ثانيا: شرح ابن أبى الحديد هذا العهد فى العصر العباسى وأكد نسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه، ولم نسمع أحدا من علماء العصر العباسى أنكر ذلك.

ثالثا: عاش الشريف الرضىّ ـ جامع "نهج البلاغة"ـ على الرغم من مذهبه الشيعى فى ظل الخلافة العباسية، وهى خلافة سُنية، وكان يشغل فيها منصب نقيب السادة الأشراف، وذاع كتابه "نهج البلاغة" الذى تضمن هذا العهد المنسوب للخليفة الراشد الرابع فلم نجد أحدا من العلماء أنكر هذا العهد أو طَعَن فيه ⁽⁵⁾.

المضامين الفكرية للعهد:

     اشتمل العهد على أكثر من ثلاثين بندا، استطاع المؤلف أن يصنفها فى خمسة محاور رئيسية، منها ما يتعلق بتذكير الوالى (الحاكم) بمقتضيات الإيمان بالله تعالى، من التقوى وتطهير النفس من شهواتها وأطماعها، وإصلاح النية وصدق التوجه وإخلاص العمل لله؛ مما يورث مكارم الأخلاق، ولم ينس تحذيره من كل ما يخالف ذلك من صفات ذميمة كالكبر والغرور والطمع، وما يترتب على ذلك من الظلم والتعدى على حقوق العباد.

     أما المحور الثانى فيتضمن علاقة الحاكم بالرعية، مع أعطاء مزيد من الاهتمام بالعامة الذين يمثلون الأغلبية، بما فيهم من فقراء ومساكين ومحتاجين ومرضى ويتامى وأطفال وذوي احتياجات خاصة.

     أما المحور الثالث فيتعلق بالفئة الحاكمة أو ما يُعرفون بكبار المسئولين. وقد أوصى الإمامُ والِيه فى هذا الجزء من العهد بمراعاة ضوابط تتصل بطبيعة التخصص الذى سيتولاه المسئول، كضوابط اختيار القادة العسكريين أو الكتاب أو القضاة بما يفيد كلا فى مجال تخصصه.    

    أما المحور الرابع فيدور حول الحقوق والواجبات لسائر طبقات المجتمع. وهنا يُوصِى الإمام والِيه بما للجنود من حقوق، كما يبين له ما عليهم من واجبات، وفَعَل الشىء نفسه بالنسىبة للمزارعين والتجار والصناع وأهل الخراج وأهل الذمة، مع التأكيد على المساواة بين الجميع فى الحقوق والواجبات، إلى غير هذا وذاك من مقتضيات العدل والرفق والمساواة بين أفراد الرعية.

    أما المحور الخامس والأخير فيدور حول العلاقات الخارجية والمعاهدات الدولية. وقد أوصاه فيه بالوفاء بالعهود والاتفاقات المُبْرَمة مع أى طرف، مسلما أو غير مسلم، والجنوح إلى السِّلم وقبول الصلح عند عرضه من العدو مع الحذر والحيطة، كما غلَّظ حرمة سفك الدماء بغير حق مشروع كالدفاع عن النفس والقصاص العادل⁽⁶⁾.

     هذا هو الإطار العام لهذا العهد العلوىّ ـ إن جاز هذا الوصف ـ كما لخصه المؤلف/الشارح فى عبارات عصرية واضحة، وإحاطة ذكية مقتضبة لكل ركن من أركان هذا العهد الثمين الذى سيظل نِبراسا يمكن أن يهتدى به كل حُكم رشيد، يسعى إلى النجاح والفلاح فى الدنيا، وفى الوقت نفسه يربح رضى الله تعالى فى الآخرة التى يسعى كل حى ـ لا محالة ـ إليها.

      ولكل هذا كان هذا الكتاب الذى يُسلط الضوء على جانب حيوى مهم من تراثنا الزاخر بمفاخر من القيم الحضارية، والقواعد الإنسانية التى لا يستغنى عنها عصر من العصور أو بلد من البلدان مهما تطاول الزمن وتوالت العصور.                        

الهوامش والتعليقات:

1. د. أنس عطية الفقى (2018). مفتاح الرشاد فى سياسة العباد والبلاد. مركز تحقيق التراث، جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا. ص 3.
2. الشريف الرضىّ: نهج البلاغة، وهو ما ختاره الشريف الرضىّ من كلام سيدنا علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه ، شرح الأستاذ الإمام محمد عبده. مؤسسة الأعلمى للمطبوعات. بيروت.
3. المصدر السابق رقم (1)، ص 4. 
4. المصدر السابق رقم (1)، ص 5.
5. المصدر السابق رقم (1)، ص 8.
6. المصدر السابق رقم (1)، ص 16.