أبو إسحاق الألبيري والدكتور محمد الغرباوي
بقلم الدكتور
صلاح يوسف عدس
إن حديثنا هنا عن الشاعر الأندلسي أبي إسحاق الألبيري والشاعر المعاصر الدكتور محمد الغرباوي يدخل في باب دراسات "الأدب المقارن الإسلامي" لما بينهما من تشابه في ستة مواضع، أولها: التشابه في البيئة العامة أي الظروف التاريخية، وثانيها: التشابه في الاتجاه الفني، وثالثها: التشابه في التجربة الشعرية بحرارتها العاطفية، ورابعها: التشابه في التقدير الفني لكل منهما، وخامسها: البساطة في الأسلوب والرقة، وسادسها: التشابه بينهما في المضمون الإسلامي، ولهذا نتحدث عن أدب مقارن إسلامي...
أما التشابه في البيئة العامة وظروف العصر والتي نسميها باسم "مدخلات الرؤية الإبداعية" وتشمل أيضًا حياة الشاعر الخاصة، وهذه المدخلات عندما تتشابه ينتج عنها تشابه في المخرجات أي تشابه في الناتج الشعري وذلك هو الشأن في أي منظومة عندما تتشابه فيها المدخلات فتعطي مخرجات واحدة... وهذا ما حدث عند شاعرينا، فقد عاش أبو إسحاق الألبيري في فترة تاريخية مشابهة للفترة التي يعيشها العالم العربي الإسلامي في زماننا من فرق وانشقاق وتحارب بين ملوك الطوائف والانهيار والانبطاح أمام العدو الواحد وهو الإفرنج وخلق أعداء وهميين من بين أنفسهم بل استقواء بعضهم بملكهم "ألفونسو" ضد الآخرين، فحصلوا بذلك على نصر فردي وهزيمة جماعية للأمة، وكان سقوط الجميع وضياع الأندلس الفردوس المفقود.
أما التشابه في الاتجاه الفني فهو الاتجاه الصوفي والاتجاه القومي الإسلامي وكان ذلك عند الألبيري في معاداته للإفرنج ولليهود... أما التشابه في التجربة الشعرية فيظهر ذلك عند الشاعرين في صدمة الموت، موت الزوجة، وصدمة الشيخوخة، عندما اقترب من حافة الستين، فالإنسان عادة بعد أن يتخطى الخمسين من العمر، وبعد أن (كان يلهث وراء الدنيا ولا يجد وقتًا كي يقف ويتأمل بل يتدحرج على سطح الأحداث دون أعماقها، لكنه فجأة يتوقف ويتجه إلى الله...)·
أما التشابه في التقدير الفني فكلا الشاعرين لم يأخذ حقهما من الدراسة والتقدير كالشعراء الآخرين الذين نالوا ما لا يستحقون من الشهرة، بينما هم في الحقيقة شعارير مزيفون....
و"أبو إسحق الإلبيري" شاعر من أعظم شعراء العربية وإن لم يأخذ حقه من التقدير والشهرة مثل "أبي نواس" و "بشار بن برد" و "حمّاد عجرد" الذين كتبوا "لهو الحديث" من مجون وخمريات وشذوذ جنسي، وكانوا حفنة من الزناة والملاحدة والشواذ والمخمورين لكن الرواة تناقلوا شعرهم لأنهم كانوا ندماء السلاطين ومن هنا كانت شهرتهم، بينما تجاهل الرواة والنقاد أشعار الزبيريين وشعراء أهل البيت الذين لقوا السجن والاضطهاد من الأمراء ولقوا الاهمال والتجاهل من الرواة والنقاد الذين تناقلوا هذه الأحكام الخاطئة جيلاً بعد جيل ومن كتاب إلى كتاب ولذلك فإن تاريخ الشعر العربي قديماً وحديثاً بحاجة إلى إعادة كتابته بمنظور إسلامي لرفع الظلم عن مظاليم الأدب والشعر في الماضي والحاضر، وذلك بناء على قاعدة نقدية طرحها "ريتشاردز" أكبر نقاد الأدب الإنجليزي في كتابه "أسس النقد الأدبي"(*)
إذ يقول: ]إن العمل الأدبي يتكون من شكل ومضمون أما الشكل فهو الذي يحدد ما إذا كان العمل أدباً أم لا وأما المضمون فهو الذي يحدد عظمة العمل الأدبي[.. ولذلك نقول إن "أبا إسحق الإلبيري" كان شاعراً عظيماً لأنه يحمل مضموناً إسلامياً عظيماً كما أننا لا نفرق بين شخصية الشاعر وسلوكه، وبين إنتاجه الشعري، وكذلك كان شاعرنا الدكتور محمد الغرباوي أفضل بكثير ممن حصلوا على الجوائز عن أشعار هزيلة وركيكة ومنحطة أخلاقيًا(*) لأنها إما بها إباحية وإلحاد وتطاول على الله، وإما بها غموض وألغاز فلم نفهم منها شيئًا مثل دواوين صلاح عبد الصبور الأخيرة وكذلك الفيتوري وثالثة الأثافي ما كتبه "محمد عفيفي مطر" من تُرَّهات لا علاقة لها بالرمزية ولا بالعمق الفكري، وإنما كلها استحمار واستعباط للقارئ، ويتقاسم معهم نقادهم أموال هذه الجوائز باسم الحداثة التي كرَّس لها شيطانهم "أدونيس" داعيًا للانفصال عن الماضي وهدم التراث الديني والتراث الأدبي واللغة العربية وقصيدة النثر، وهذا الدليل على الانهيار الحضاري لنا، مثلما أن السريالية في الفن التشكيلي واللامعقول في المسرح دليل على الانهيار الحضاري في الغرب...
وقد ظهر "أبو إسحق الإلبيري" في القرن الخامس الهجري وعاش في عهد ملوك الطوائف، إذ توفي سنة 460هـ في إمارة "غرناطة" التي كانت أيامها تحت حكم "بن باديس" من البربر إلزيريين" الأفارقة وقد تولى الوزارة "يوسف النغريلي" اليهودي الذي طغى وأظهر سيطرة اليهود على الحكم وفرض الجبايات الباهظة على المسلمين وتطاول على القرآن، مما أثار السخط والحمية الثورية عند شاعرنا وكذلك "ابن حزم" وكتب شاعرنا قصيدة رائعة أشعلت ثورة قتلوا فيها آلاف اليهود ...
وإذا كان "سارتر" يقول في كتابه "ما الأدب"(*) ]لا يوجد أديب في العالم له جمهور بمعنى التأثير والقيادة الجماهيرية[ فإن "أبا إسحق الابياري" هو أول شاعر كانت الجماهير تردد شعره خاصة قصيدته الثورية ضد اليهود، وبذلك لم يكن "الإلبيري" صوفيا سلبياً بل كان ثورياً قيادياً إيجابياً ......
وقد كانت هذه الظروف السياسية ذات أثر كبير في شعر "الإلبيري" إلى جانب ظروفه الخاصة المتمثلة في وفاة زوجته مما جعله ينكسر روحياً أمام صدمة الموت وصدمة الشيخوخة مما جعله يتجه إلى الصوفية والزهد وساهم في ذلك رفضه لما شاع في عصره من المجون والترف والانغماس في الشهوات الدنيوية مما عجَّل بانهيار المسلمين في الأندلس على يد الإفرنج في حربهم التي يسمونها باسم "حرب الاسترداد" “Reconquesta” ضد ملوك الطوائف الذين كانوا إمارات متحاربة يستعدي بعضهم "ألفونسو" على بعضهم الآخر ... وهكذا كانت حياة "أبي إسحق الإلبيري" وبيئته الخاصة والعامة بمثابة المدخلات" التي أثرَّت في منظومة الابداع الشعري لدى شاعرنا أي شكلّت انتاجه الشعري من حيث الأغراض والمضامين ..
أما الاحساس العام في شعر "أبي إسحق الإلبيري" فهو الاحساس بالمأساة وهي عنده ذات بعدين، أولهما البعد الذاتي الذي يتمثل في احساسه بالمرارة والأسى إزاء صدمة الشيخوخة وصدمة الموت، موت زوجته لأنه أدرك أن الحياة هشَّة قابلة للكسر في أي لحظة، ومن ثمَّ زهد فيها لأنها فانية، وأما البعد الثاني في الاحساس العام بالمأساة لديه فيتمثل في انهيار المسلمين في الأندلس آنذاك وتفرقهم وتناحرهم وانغماسهم في الملذات الدنيوية.. وهذا هو الإحساس العام في شعر الدكتور محمد الغرباوي.
أما المحاور الشعرية عند "أبي إسحق الإلبيري" فهي ثلاثة: المحور الصوفي والمحور الإنساني والمحور القومي بالمفهوم الإسلامي .. أما المحور الصوفي أو الميتافيزيقي" حيث ظهر في إنجلترا في القرن السابع عشر المدرسة (· ) الميتافيزيقية في الشعر لأنها تصور ما هو ديني وإلهي وروحاني مثلما في شعر "جون دون" وأما المحور الثاني فهو المحور الإنساني أي محور القيم الإنسانية، العامة وما هي في واقع الأمر إلا القيم الإسلامية، أما المحور الثالث فهو المحور القومي وهو محور إسلامي أي أيديولوجي بمعنى أنه عقائدي يتعلق بالجهاد وليس بمعنى "الوطني" المحدود، والجهاد هنا كان يتمثل في ثورة "أبي إسحق الإلبيري" ضد اليهود في شعره، ويتمثل أيضًا في شعر الدكتور الغرباوي مثلما في قصيدته عن سقوط بغداد(*) وهي من قبيل رثاء المدن والممالك مثل قصيدة الإلبيري عن خراب إلبيرة.
وقصيدة "تقي الدين بن أبي اليسر" عن سقوط بغداد على يد هولاكو(*) وقصيدة "أبي البقاء الرندي"(*) عن سقوط الأندلس وقصيدة "عمارة اليمني" عن سقوط الدولة الفاطمية(*)...
وأما الأنغام الوجدانية التي تشكل الإحساس العام عند الإلبيري فهي وهي نغمة الحزن والأسى والرثاء لنفسه واليأس إلا من رحمة الله بقبول توبته وخلاصه من النار وثوابه بالجنة مما يعطيه نغمة الأمل ... ونعرض هنا بعض النماذج الشعرية فلنستمع إلى أبي إسحق الإلبيري إذ يقول:-
نحن في منزل الفناء ولكن * هو باب إلى البقاء وسُلَّمْ
ورحى الموت تستدير علينا * أبدا تطحن الجميع وتهشمْ
وأنا موقن بذاك عليــــم * وفعالي فعال من ليس يعلم
********************
ويقول "الإلبيري": من خلال الصور الشعرية التي تشكل في مجموعها الأنغام الوجدانية وهي نغمة الحزن والأسى أمام الموت موت زوجته وامام الشيب والشيخوخة بعد بلوغه الستين وكذلك نغمة الشعور بالذنب والأمل في الخلاص بالتوبة والزهد في الحياة والاقتراب من الله، إذ يقول:
تغازلني المنية من قريب * وتلحظني ملاحظة الرقيــــــــب
وتنشر لي كتاباً فيه طيِّ * بخط الدهر أسطره مشيبي
كتاب في معانيه غموض * يلوح لكل أوَّابٍ منيــــــــــــــــب
********************
يقول أيضاً:
أزال الشيب يا صاح شبابـــــي * ومن حسن النضارة بالشحوب
كذاك الشمس يعلوها اصفرارا * إذا جنحت ومالت للغـــــــــــــروب
********************
ولنستمع إليه ينعي نفسه بهذا الاستفهام التحسري لأن أحدًا لن يبكي لموته:
فمن هذا الذ بعدي سيبكـي * عليها من بعيد أو قريــب
********************
ولنستمع إليه يخاطب حمامة الأيك التي تبكي لفرقة الحبيب مستعملاً أسلوباً لغوياً بسيطاً وألفاظاً رقيقة إذ يقول في عاطفية حارة:
لكن ما أشكوه من فرط الجوى * بخلاف ما تجدين من شكـواك
أنا إنما أبكي الذنوب وأسرهـا * ومناي في الشكوى منال فكاكي
وإذا بكيت سألت ربي رحمـة * وتجاوزا فبكاي غير بكــــــــــــــــــــاك
ويقول أيضاً(*):
من ليس يسعى في الخلاص لنفسه * كانت سعايته عليهـــا لا لها
إن الذنوب بتوبة تُمحى كمــا * يمحو سجود السهو غفلة من سها
********************
ويقول أيضاً مصوراً الشعور بالذنب:
أي خطيئاتـــي أبكي دمــــــــــــــاً * وهي كثير كنجوم السمــــــــــــــا
قد طمست عقلي فما اهتدى * وأورثت عين فؤادي العمـــــــــا
إنا إلى الله لقد حــلَّ بــــــــــــي * خطب غدا صبحي به مظلما
********************
ويقول أيضاً مصوراً احساسه التراجيدي بالموت:
أين الملوك وأين ما جمعوا وما * ذخروه من ذهب المتاع الذاهب
قصفتهم ريح الرّدي ورمتهـــــــم * كفُّ المنون بكل سهم صائـــــب
********************
ويقول عن الدنيا وكيف نرحل عنها والأرض باقية:
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما * يبقى المناخ وترحل الركبانُ
أأسرُّ في الدنيا بكل زيــــــــــــــــادة * وزيادتي فيها هي النقصانُ
********************
ويقول شاعرنا أيضاً:
وتدعوك المنون دعاء صدق * ألا يا صاح: أنت أريد أنـت
تنام الدهر ويحك في غطيط * بها حتى إذا متَّ انتبهتــا
فكم ذا أنت مخدوع وحتى * متى لا ترعوي عنها وحتى؟
********************
ويقول أيضاً عن فناء الدنيا:
سجنت بها وأنت لها محبُّ * فكيف تحبُّ ما فيه سجنتـا
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً * بما ناداه "ذو النون بن متىَّ"
تفرُّ من الهجير وتتقيـــــــــه * فهلا عن جهنم قــــــــد فررتــا
أما عن رثائه لزوجته فإن موت الحبيب يجعلنا نحس بفاجعة الموت وكيف أن الحياة الإنسانية هشة قابلة للتحطم في أي لحظة، وشاعرنا يصور هذا الاحساس التراجيدي بما فيه من لوعة وأسى إذ يقول عنها:
إن كان يدثر جسمه في رمســـــــــــه * فهواي فيه الدهر ليس بداثــــــر
فعساه يسمح لي بوصل في الكرى * متعاهدا لي بالخيـال الزائـر (·)
فأعلل القلب العليـــل بطيفــــــــــــــــــة * عليِّ أوافيه ولست بغـــــــــــــــــــــادر
ولو أنني أنصفتـــــــــــــــــــه فـــي ودّه * لقضيت يوم قضى ولم استأخـر
********************
ويتوحد عند شاعرنا مأساة الموت بمأساة الحياة في الدنيا إذ يقول عنها:
فأجبتها متعجباً من غدرهـــــــا * أجزيت بالبغضا من يهــواك
لأجلت عيني في بنيك فكلهم * أسراك أو جرحاك أو صرعاك
ما كنت منُ أمٍ لا أكالــــــــــــــة * بعد الولادة ما أقلّ حَيَــــــــــــــــاك
فرضٌ علينا بُّراُ أمَّاتنـــــــــــــــــا * وعقوقهم مُحــــــــــــــــــــــــــــرَّم إلاّك
لا عيش يصفو للملوك وإنما * تصفو وتحمد عيشـــه النُسَّاك
********************
ويصور لنا شاعرنا صدمة الشيخوخة إذ يقول:
هــلا إذا أشفى رأي شيبه * ينعاه فاستحى من اللهِ
********************
كان هذا عن صوفية "الإلبيري" أما شاعرنا الدكتور الغرباوي فيتضح اتجاهه الصوفي في ديوانه الأخير "قدسية النغم" وفي ديوانيه السابقين: "دوائر بلا خطوط" و"انكفأت على ذاتي" وإن كان بصورة أعلى في رمزيتها كما أن تجربة رثاء الزوجة كانت في ديوانه" عشرون يومًا في الأحزان".. وفيه يصور إحساسه بالمأساة أمام تراجيديا الموت.
ولعل شبح هذه الفاجعة، أي موت الزوجة، هو ما أعاقه عن التواصل في تجارب تالية وربما بحث فيهن عن الزوجة الأولى، فلم يجدها أو أنه يشبه "بيجماليون" عاشق التمثال الذي صوره "برناردشو" في مسرحيته، والذي عشق امرأة في خياله وحاول أن يجسدها في تمثال نحته بيديه، فلما تجلت له معشوقته بشرًا سويًا اكتشف أنها ليست هي التي رسمها في خياله وجسدها في تمثاله... وهكذا اصطدم المثال الفكري بالواقع الأرضي... فالحب الحقيقي يبدو أنه لا يتحقق في امرأة محددة، لأن الحب هو الاتحاد بالمطلق وليس المحدود، لأنه عندما يتحدد الحب في شخص محدد متناهي فإنه يتهدد بالتناهي، اي ينتهي لأنه ليس هو المطلق، وعندئذ يكتشف الإنسان أنه كان يحب صورة في عقله لم ولن تتحقق على الأرض؛ لأنه كان في وهم إما الحب الحقيقي الذي يحقق الرضا فهو الحب الإلهي الذي صوره الصوفية لأنه الاتحاد بالمطلق " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه" وهذا ما صوره شاعرنا الدكتور محمد الغرباوي في ديوانه قدسية النغم وفي ديوانيه السابقين....
ولنستمع إلى شاعرنا يصور إحساسه الفاجع بتراجيديا الموت.. موت الزوجة إذ يقول مصورًا ألم الوحدة والاستسلام لضربات القدر:
هذه داري وهذي خيمتي أمست خواء
غالها رغمي بصبح إنه أمر القضـاء
ويقول أيضًا مشيرًا إلى العشرين يومًا التي مرت بين وفاتها وميعاد حفل ذكرى الزواج:
ذابت شموع موائدي في حسرة *** وفتيلها الريان يأبى يشتعـل
اليوم عيد زواجنا لم يكتمــل*** عشرون يومًا قبله حان الأجل
ويقول أيضًا:
وجاء العيد محزونًا يواسينـا *** يكفكف دمعه الباكي ولا ينفك يأسونا
وأين الأنس أين العهد يجمعنا*** تبخر ساعة الأحزان قد ماتت أمانينا
ويقول أيضًا:
اختبئ خلف الدمــوع *** بعد كتماني حروقـي
والليالي ما الليالـــي *** نجمها الساهي رفيقي
قلنا إن صدمة الموت التراجيدية كانت هي البوابة للدخول إلى الصوفية مثلما في قصيدته "وقفة مع الروح" إذا يقول مصورًا التحول الروحي في حياته:
كنت ألهو في حياتـي *** كالخراف كالشياة
وأجوب الأرض أبغي *** ما يلبِّ شهواتـي
ويقف في لحظة إشراق إلهي للتوبة فيخاطب أعضاء جسده التي ارتكبت الذنوب:
أيها الأعضاء بشرى *** إنني بدلت ذاتـي
فالتسابيح طعــامي *** وشرابي حسناتي
ثم يصور بعد الإحساس بالذنب الإحساس بالتوبة والأمل في الخلاص برحمة الله في قصيدة بعنوان "توبة وأمل".
ذنب دهاني خلت فيه معــــــــــــادي *** ترك اللهيب بمهجتي وفــــــــــــؤادي
أيحي الفؤاد شقاء ذنب هدّنــــــــــي *** حُرمت ضلوعي من فراش رقادي
لا تيأسي يا نفس من ذنب طغــــــى*** وســـع الإله بعفــوه أنــــــــــــــــدادي
ويصور لنا شاعرنا الرضا الكامل الذي يحققه الحب الإلهي فيقول:
عين الرضـــا... كل الرضـــــــــــــــــــــــا *** في سبــــــــح طير في الفضــاء
في أمه .. في صمته.. في نقطه *** فيما يرق إذا أتانا أو مضـــــــــى
ويقول أيضًا:
هل رجعة هل أوبـة *** ذاك الطريق قد استطال وما استوى
ونجد في ديوان "قدسية النغم" إن نغمة الشعور بالذنب والخوف من عذاب الله تمتزج بنغمة الرجاء في عفوه إذ يقول:
إني عصيتك يا إلهي غفلــــــــــــة *** ثم انتبهت ولذتُ بالأعتاب
يا من يجود على الجحود بأنعم*** أغفر ذنوبي واهدني للباب
ويصور لنا التجليات الإلهية في التجربة الصوفية بقول عن النور الإلهي"
يرف النور في عيني وقلبي *** يسافر بي فضاء خلف حجب
وكيف أن كل ما في الكون يسجد لله ولكن لا تعرفون تسبيحهم:
سبّح الكون بحمد غرد الطير بعزف وحدَّت حب الرمال
الجمال في الوهاد في الروابي في التلال في الجبـــــــال
ويقول شاعرنا في قصيدة "خلاص".
يا عمرا قد علق الدنيا *** بالله تعلّقْ منجاتي
فالخلاص هو بالتعلق بالله وأن ترسو سفينة الحياة عنده كما رست سفينة نوح على "الجودي" إذ يقول:
[هنا النور المؤمل للغريق ***هنا الجودي]
فالحياة هي رحلة البحث عن الله المطلق والكل؛ والكدح هو محاولة اتحاد الجزء بالكل..
أما عن ثورية شاعرنا الإلبيري الذي لم يكن صوفيا غارقاً في غيبوبة عن مآسي مجتمعه وعصره بل كان مجاهداً بطلاً مناهضاً لظلم اليهود ويوسف بن النغريلة وزير "باديس" حاكم "غرناطة" والذي كان الشعراء يمدحونه ويمدحون اليهود ويدعون للخمر والجنس والترف أما "الإلبيري" فهاجم كل ذلك وهاجم اليهود الذين تجاوزوا المدى وذلك بأيدي المسلمين الذين مكنوهم من ذلك وقد نشبت ثورة ضدهم آنذاك قُتل فيها آلاف اليهود ...
ويخاطب شاعرنا "باديس" معاتباً إياه بأنه اختار "كاتبه" أي وزيره من اليهود فيقول:
تخير كاتبه كافـــراً *** ولو شاء كان من المسلميــــــــــــــن
فعزَّ اليهود به وانتخوا *** وتاهوا وكانوا من الأرذلين
فكم مسلم فاضل قانـت *** لأرذل قرد من المشركيــــــــن
وما كان ذلك من سعيهم *** ولكنَّ منَّا يقوم المعيــــــــــــن
وكيف استنمت إلى فاسق*** وقارنته وهو بئس القرين
تأمل بعينيك أقطــــــــــــارها *** تجدهم كلاباً بها خاسئيـن
وكيف انفردت بتقريبهم *** وهم في البلاد من المبعدين
وإني حللت بغرناطـــــــــــــة *** فكنت أراهم بها عابثيــــــــــن
وقد قسموها وأعمالهـا *** فمنهم بكل مكان لعيـــــــــــــــــن
وهمُ أمناكم على سرّكـم *** وكيف يكون خؤون أميــــــن
ويأكل غيرهم درهمــــــــــــا ***فيقضي، ويدنون إذ يأكلون
ولا تحسبن قتلهم غدرة *** بل الغدر في تركهم يعبثون
وقد نكثوا عهدنا عندهم *** فكيف تلام على الناكثيــــــــن
ونحن الأذلة من بينهـم *** كأنا شأنا وهم محسنــــــــــون
فلا ترض فينا بأفعالهـم *** فأنت رهين بما يفعلـون(*)
|
ونجد مثل هذه الثورية في الدفاع عن المسلمين المقهورين عند الدكتور محمد الغرباوي في شعره القومي.. خلاصة القول هي إننا أمام شاعرين كبيرين هما الإلبيري والدكتور الغرباوي، وذلك من حيث الشكل، إذ يتميزان بالبساطة والرقة والعاطفية، كما يتميزان بعظمة المضمون الإسلامي، وأوجه التشابه في التجربة الشعرية في صدمة الموت موت الزوجة وصدمة الشيخوخة والتشابه في الاتجاه الفني، الصوفي والقومي الإسلامي وأخيرًا التشابه في التقدير الفني، فكلاهما لم يأخذ حقه من التقدير كشعراء الستينات المزيفين حديثًا وكأبي نواس وبشار بن برد قديمًا، وذلك لنفس السبب وهو تزوير تاريخ الأدب العربي والردّة للجاهلية مما يستدعي إعادة كتابة تاريخ أدبنا بمنظور إسلامي وهذه هي قضيتي في كل كتاباتي بهدف رفع الظلم عن الشعراء الحقيقيين.
· ) الأبيات للشاعر الميتافيزيقي جون دون يقول في مطلعها: There is no time to stand and look
* Principles of criticism, by : A. Richards. P. 75.
* يقول العقاد أن الشيوعية مذهب ذوي العاهات في كتاب له بهذا العنوان.
* ما الأدب – جان بول سارتر – ترجمة: د. محمد غنيمي هلال.
· History of English literature – by I for Evans
* يقول الدكتور الغرباوي في قصيدته الطائي والمعتصم حول أسوار عموريا بيعت يا ولدي بغداد/ بيعت غدرًا بالثمن المعتاد/ قالوا سقطت/ سقطت سهوًا/ وانتحرت فيها الأساد/ يا معتصمي كم ناديت ولم تسمعني/ بيع اليوم عراق أبيك بغير مزاد.
* لسائل الوضع عن بغداد أخبار *** فما وقوفك والأحباب قد ساروا
* لكل شيء إذا ما تم نقصان *** فلا يُغرُّ بطيب العيش إنســـــــــــــــان
* رميت يا دهر كف المجد بالشلل *** وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
* انظر كتاب الخطاب الشعري عند أبي إسحق الإلبيري الأندلسي للدكتور عصام ندا.
· أنظر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في حديثه عن ديك الجن عبد السلام بن رغبان وقد أورد هذا المعنى في رثاءه لزوجته التي قتلها بسبب وهم الغيرة إذ يقول:
جاءت تزور فراشي بعدما قبرت * فظللت ألثم نحرًا زانه الجيــــــدُ
وقلت قرة عيني هل بعثــــــت لنا * وكيف ذا وطريق القبر مسدود
قالت هناك عظامي فيه مودعـــة * هذي زيارة من في القبر ملحود
وهذا ما يسمونه في النقد الحديث باسم التناص أي تداخل النصوص ....
* انظر كتاب "منظومة الأدب الإسلامي في شعر د. الغرباوي – د. صلاح عدس – عن الشعر القومي للدكتور الغرباوي.