صلاح حسن رشيد
باحث وأديب مصري
"ما أخاف على المخطوطات العربية من الضياع، والإهمال؛ ولكنني أخشى ما أخشاه أن يموت جيل رواد التحقيق؛ فينزوي هذا العلم الجليل، وتندرس معالمه، ويفنى رجاله العظام، ولا يشتغل به إلا من لا بصر لهم بفنونه"! المحقق الأردني/ عصام الشنطي رحمه الله.
أجل؛ لقد انمازت الحضارة العربية الإسلامية بأجيال تترى من المحققين العباقرة؛ الذين أحيوا علوم الأجداد، والآباء؛ فاستخرجوا من عالم المجهول روح الأمة العقلي، وضميرها الروحاني، وفؤادها الوجداني، ونبراسها الثقافي؛ لينتفع به القاصي والداني؛ وتتيه به على حضارات الدنيا!
نعم؛ فلولا هؤلاء المحققون؛ لما عرفنا أنفسنا، ولا سمعنا، ولا قرأنا عن أمجاد موروثنا، وأفضال حضارتنا، وروعة مذخورنا من المخطوطات النفيسة!
فعن الأثر العلمي الكبير لتحقيقات مطبعة بولاق بمصر في العصر الحديث؛ يقول شيخ المحققين العلامة/ عبد السلام هارون: "ولقد كانت فكرة إحياء التراث، والنشاط فيه فكرة قومية، قبل أن تكون فكرة علمية؛ فإن طغيان الثقافة الأوربية، والنفوذ التركي، وضغطه، كان يأخذ بمخنق العرب في بلادهم؛ فأرادوا أن يخرجوا إلى متنفس يحسون فيه بكيانهم المستمد من كيان أسلافهم، في الوقت الذي وجدوا فيه الأوربيين يتسابقون، وينبشون كنوز الثقافة العربية؛ فانطلقوا في هذه السبيل، ينشرون، ويحيون؛ إذ كانوا يرون أنهم أحق بهذا العمل النبيل، وأجدر"!
وفي كتابه (التراث العربي) يقول هارون عن أثر أحمد زكي باشا الرائد في إحياء التراث: "ولعل أول نافخ في بوق إحياء التراث العربي على المنهج الحديث في مصر/ وهو المغفور له أحمد زكي باشا؛ الذي قام بتحقيق كتاب أنساب الخيل لابن الكلبي، وكتاب الأصنام لابن الكلبي أيضاً، وقد طبعا في المطبعة الأميرية(بولاق) سنة 1914م، التي عرفت فيما بعد بالقسم الأدبي. ولعل هذين الكتابين، مع كتاب التاج للجاحظ، الذي حققه أيضاً، من أوائل الكتب، التي كتب في صدورها كلمة (بتحقيق). كما أن تلك الكتب قد حظيت بإخراجها على أحدث المناهج العلمية للتحقيق"!
يقول الدكتور محمود الطناحي في كتابه (في اللغة والأدب): "وعندما ألقى المستشرق الألماني الكبير/ براجستراسر المتوفي عام 1933م محاضرات على طلبة كلية الآداب بالجامعة المصرية حول مناهج تحقيق النصوص ونشرها، وقد ذكر في هذه المحاضرات أشياء عن جمع النسخ المخطوطة للكتاب المراد نشره، والموازنة بينها، واختيار النسخة الأم، والنسخ الفرعية، وإعداد الكتاب للطبع. وقد بهرت هذه المحاضرات في وقتها من لا علم عنده، ولا خبرة لديه بماضي هذه الأمة العربية، وما صنعه علماؤها في تدوين هذا التراث وجمعه .. ثم ما أقاموه من قواعد ورسوم؛ من حيث إسناد الرواية إلى مؤلف الكتاب، والمقابلة على النسخ الأخرى، والمفاضلة بين النسخ، على أساس ما ثبت على بعضها من سماعات، وإجازات، وتقييدات .."! وقد أثارت هذه المحاضرات دوياً هائلاً في مصر، وبين علمائها، وشيوخها؛ وقد اعترفوا بما للمستشرقين من فضل في إحياء التراث العربي ونشره وفق المناهج العلمية الحديثة، لكنهم نظروا فيما اصطنعه المستشرقون من مناهج؛ فإذا هو منتزع من تراثنا.. ولذلك عمدوا إلى حركة إحياء التراث كما رسمه الأسلاف في حضارتنا الزاهرة.
ويأتي على رأس مدرسة تحقيق التراث المصرية؛ أعلام دار العلوم الأوائل، ومنهم: الشيخ/ حسين المرصفي، والشيخ/ حمزة فتح الله، وعبد الستار فراج، وعبد الحميد بسيوني، وإبراهيم الإبياري، وعلي النجدي ناصف، ومن بعدهم يأتي: حسين شرف، ورمضان عبد التواب، ومصطفى حجازي، ومحمد عبد الغني حسن، ومصطفى السقا، وعبد العزيز مطر، وعبد الفتاح الحلو، والطاهر مكي، ومحمود الطناحي، وعبد الكريم العزباوي، وعبد الحميد قطامش، وغيرهم.
لكن هناك ثلاثة من شيوخ التحقيق من أبناء دار العلوم المصرية؛ الذين وقفوا حياتهم على هذا العلم الجميل؛ فأخلصوا له، وشغلوا أنفسهم به، وعايشوه معايشة المحب؛ فكانوا كالزاهد الذي ترك الدنيا ظهره، ودبر أذنيه؛ على حد وصف محمود الطناحي لهم. وهؤلاء الثلاثة المشهورون بكثرة، وغزارة التحقيق هم: محمد علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد السلام هارون؛ فقد كان الواحد منهم بمثابة الجامعة التي تعمل ليل نهار؛ دون كلل، أو ملل!.
يقول الطناحي: فالعلامة/ محمد علي البجاوي؛ كان من كبار مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف. ومن تحقيقاته الرائعة: أحكام القرآن للقاضي ابن العربي(أربعة أجزاء)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر(أربعة أجزاء)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني(ثمانية أجزاء)، والأمثال من الكتاب والسنة للحكيم الترمذي، والتبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري(جزءان)، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني(أربعة أجزاء)، والفائق في غريب الحديث للزمخشري(أربعة أجزاء بالاشتراك مع أبي الفضل إبراهيم)، وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي(جزءان)، ومختارات شعراء العرب لابن الشجري، ومراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين الحنبلي(ثلاثة أجزاء)، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي(ثلاثة أجزاء)، وميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي(أربعة أجزاء)، والمشتبه للذهبي، وغيرها من تحقيقاته المشهورة.
أما العلامة/ محمد أبو الفضل إبراهيم(1905-1981م) فعمل فور تخرجه في دار العلوم مدرساً بوزارة المعارف، ثم انتقل إلى دار الكتب المصرية؛ رئيساً للقسم الأدبي بها. قال عنه الطناحي: كان معلماً بارزاً من معالم نشر التراث في مصر؛ فقد مد يد العون لكثير من الباحثين الذين كانوا يترددون على الدار، وكان مكتبه يموج بكبار الباحثين والمحققين من أرجاء الدنيا، كما رأس لجنة تحقيق التراث الإسلامي بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر .. وكان آية في طيب العشرة، وحسن المذاكرة، وإيثار السلامة؛ مما جمع الناس حوله، وكان أديباً صاحب عبارة صافية، وبيان رائق عذب! وكانت له ندوة أسبوعية في حي مصر الجديدة يرتادها محبوه، وتلامذته من شتى المناحي، والاتجاهات.
ومن تحقيقاته المهمة التي بلغت خمسة وثلاثين تحقيقا: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي(أربعة أجزاء)، والأضداد لابن الأنباري، وأمالي المرتضى، وإنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي(أربعة أجزاء)، وتاريخ الطبري مع ذيوله(أحد عشر جزءاً)، وبدائع البدائه لابن ظافر الأزدي، وثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي، وثمرات الأوراق لابن حجة الحموي، وحسن المحاضرة في ملوك مصر والقاهرة للسيوطي(جزءان)، ودرة الغواص في أوهام الخواص للحريري، ودواوين(امرئ القيس، والنابغة، والبهاء زهير)، وشرح مقامات الحريري للشريشي(خمسة أجزاء)، والكامل للمبرد(خمسة أجزاء)، والمحاسن والمساوئ للبيهقي(جزءان)، ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي، ونزهة الألبا في طبقات الأدبا لأبي البركات الأنباري، وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي، ونهج البلاغة للشريف الرضي(جزءان)، وغيرها.
وأما العلامة/ عبد السلام هارون(1909-1988م) فهو أغزر، وأمتن الثلاثة إنتاجاً وعلماً، وهضماً؛ قال عنه عصام الشنطي: "هو فارس تحقيق التراث في العالم العربي؛ بلا منازع، ودونه تأتي إسهامات، وجهود الرواد، والأعلام في هذا الفن الجليل"!
وصفه تلميذه الطناحي؛ فقال: "لقد حمل عبد السلام هارون اللواء(لواء التحقيق) بكلتا يديه، ومضى به أشواطاً وأشواطاً، لم ترتعش له يد، ولم يلتو به الطريق، لم تزل له قدم، ولم يزغ منه بصر! ستون عاماً قضاها الرجل في جهاد دائب؛ وإن الناظر في مقدمات الكتب التي نشرها هذا المحقق العظيم؛ ينبئك أنه مشدود العقل، والقلب إلى هذا التراث، يريد أن يفعل له وبه الكثير"!
ويقول الطناحي أيضاً: ويمثل تقديمه لكتب الحيوان للجاحظ منهجه في نشر النصوص بشكل عام؛ حيث يقول: " وبعد؛ فأقولها صريحة بينة؛ أن ليس يوجد في عصرنا هذا من يستطيع أن يخرج هذا الكتاب الذي أخرجته مبرءاً من العيب، سليماً من التحريف؛ فهذا عصر قد انقطعت دونه الرواية، وأوصد أمامه بعض أبواب العلم، واختفى عن الناس فيه كثير من أعلام الثقافة العربية في عصرها الأول. أقول: ليس يوجد الفرد! وأقول: ليست توجد الجماعة! ولست هنا بسبيل التمثيل بفرد أو جماعة! فذلك يعرفه من نظر فيما يحيي الناشرون من أثر الأسلاف. وأما أنا؛ فلست بمكان من يدعي العصمة، أو يخال السلامة .."!
ويكفي أنه أخرج للمكتبة العربية ما يناهز المائة وخمسين تحقيقاً لعيون التراث في مجالاته المتعددة، بريشة العالم الدقيق، والفنان الموسوعي، والراهب المتواضع!
فأين نحن اليوم من هذه المدرسة العريقة؟! وهل بيننا الآن شيوخ من أمثال هؤلاء في طول المثابرة، وسعة الأفق، ومعايشة المخطوط بصبر وأناة، والاعتناء بالتراث، والحرص على إحيائه، ونشره؟! وأين رجال معهد المخطوطات العربية اليوم؟! وأين إنجازاتهم، وإسهاماتهم الحالية في الإضاءة، والكشف، والإخراج لكنوز تراثنا الدفين؟!
وبعد؛ فهل ماتت مدرسة التحقيق العربية العظيمة تلك؛ بموت شيوخها الكبار؟!
سؤال صعب بلا شك؛ وإجابته لا جرم؛ أشق، وأصعب، وأنكى!
وأنْ؛ عسى؛ أنْ تُخْرِجَ الأيامُ لنا؛ مَنْ يحمل الراية من بعدهم؛ ويقتفي آثارهم؛ في الإجادة، والتبريز، والنبوغ.