بقلم/ عبد الرحمن هاشم
نشر: عقب وفاة الشيخ وانتقاله 26 ديسمبر 2018م
تعرّفتُ عليه سماعًا قبل ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، وأنا تلميذ في المرحلة الثانوية من ابن أخته زميل الدراسة أحمد علي سليمان الذي عُرِف بيننا بأنَّ خاله هو الدكتور مجاهد توفيق الجندي الأستاذ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر، ومرّة أخرى فاجأنا خطيب المسجد الشيخ الأستاذ محمد رفعت شمس الدين وهو يخطب الجمعة بالترحيب بالدكتور مجاهد الجندي قائلًا: "يحضر معنا العلامة الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي فأهلًا به ومرحبا"، ولأنه كان يرتدي البدلة؛ فلم أميزه بين المصلين.
هكذا انطبع اسم الدكتور مجاهد توفيق الجندي في وعيي منذ هذا التاريخ.. ومرّت أيام، وأحداث، وخطوب، ثم التقيت به وجهًا لوجه منذ خمس سنوات في أحد المؤتمرات وكان بصحبة ابنته وسام، ومن وقتها نشأ التعارف والتقارب والتعاون والمودة.
واصطحبني معه في مؤتمر للأدباء في مدينة الغردقة مكثنا فيه ثلاثة أيام ونزل البحر ليسبح وهو في سنٍ تجاوز السبعين أما أنا فلا أعرف العوم فضلًا عن أنني أجبن من أن أحاول التعلم.
في جوّ الغردقة الهاديء الجميل اقتربت منه أكثر، ووجدته منطلقًا محبًا للحياة، خرج معنا في رحلة بحرية لرؤية الشُعَب المرجانية وارتدى بدلة الغوص ونزل وكأنه شاب مغامر في سن العشرين حتى أن ابنته وسام أشفقت عليه ولامتنا في استصحابه في هذه الرحلة فدافعت عنه أنجلينا المصرية من أصل ألماني وزوجها عبد العزيز الدمياطي اللذان شجعاه على المغامرة وترك النفس على سجيتها بلا تكلّف ولا ادعاء.
وأذكر أن الفوج في ذهابه كان تعداده عشرون فعاد وتعداده تسعة عشر، والسبب محمد سعد الذي يملك حمامًا مغربيًا في الغردقة؛ إذ تعرّف على إحدى الأديبات واتفقا على الزواج، فتركتنا نعود ومكثت معه.
كما أذكر أن الشيخ مجاهد قد أتى معه بلفة من الخوص اليابس كي يغزله، رأيته يفعل ذلك على السرير في حجرته، كما رأيته يقطر عينيه بعسل النحل.
وكان –رحمه الله- مهيب المنظر، يتعمّم بعمة تركية، وكان يخدم نفسه ويشتري حوائجه، ويصمت أكثر مما يتكلم.
وكان –رحمه الله- حسن الخلق، كريم النفس، يتفقدني باستمرار ويحرص على أن أشاركه في رحلاته وندواته خارج القاهرة وداخلها.. ذهبنا معًا إلى قرية نجريج محافظة الغربية للاحتفال بمؤية الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي التي نظمها المركز الروسي الثقافي بالقاهرة، وهناك تلقفه أهل القرية بالترحاب وتقبيل اليد، والتقطوا معه الصور التذكارية وعزموه -وعزمونا معه- على وجبة فطير مع الجبن القديم والعسل، كما التقى في الحفل بالمحافظ الذي أهداه درع المحافظة.
كان مع كبر سنه نشيطًا عالي الهمة لا يستنكف عن إجابة أي دعوة وجهت له سواء كان مشاركًا على المنصة أو حاضرًا مع الضيوف.
وكان من أحب المؤتمرات إلى قلبه المؤتمر السنوي لاتحاد الأثاريين العرب، ذلك المؤتمر الذي شهد تعارفنا وتآلفنا، والعجيب أنه هو الذي جمّع بيني وبين زميل الدراسة ابن أخته (الدكتور حاليًا) أحمد علي سليمان ابن قرية بلوس الهوى غربية مرة أخرى بعدما فرّق بيننا الزمن مدة 25 سنة، فعاد أصحاب الأمس البعيد أصدقاء الحاضر والمستقبل بإذن الله.
قال لي ابن أخته: كان يُعطي زائريه في مرضه الأخير النقود مباشرة في أيديهم أو في أيدي أبنائهم، رحمه الله رحمة واسعة.