الدكتور عبد الحليم محمود.. العالم الصوفي بقية السلف الصالح
(1328 - 1398 هـ = 1910 - 1978 م)
بقلم/ عبد الرحمن هاشم
نشأ فضيلة الإمام الشيخ عبد الحليم محمود في كنف أسرة كريمة ينتهي نسبها إلي سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكان مولده في قرية أبو أحمد من ضواحي مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية في 2 من جمادى الأولى سنة 1328هـ الموافق 12 من مايو 1910م، والقرية منسوبة إلى جده (أبو أحمد) الذي أنشأ القرية وأصلحها، وتُسمَّى الآن باسم (السلام).
والده هو الشيخ محمود علي أحمد أحد قضاة المنطقة في ذلك الوقت من تلاميذ الإمام محمد عبده فكان يعد ابنه الأكبر عبد الحليم محمود الإعداد المتواصل ليكون من حملة لواء الأزهر، وكان لحياة الإمام الشيخ عبد الحليم محمود في رحاب الأزهر الشريف منذ مطلع صباه الفضل في تهيئته ليبرز كعالم محقَّق يطابق قوله فعله.
حفظ الإمام القرآن الكريم في كتاب القرية، قبل أن يلتحق بالأزهر عام 1923 م، وبعد إنشاء معهد الزقازيق الديني انتقل إليه عام 1925 واختصر فترة الدراسة بأن تقدَّم للحصول على الشهادة الثانوية الأزهرية من الخارج وحصل عليها عام 1928، وحصل على الشهادة العالمية عام 1932م، وكان من أساتذته الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ الزنكلوني والشيخ محمود شلتوت والشيخ سليمان نوار وغيرهم كثير من فضلاء العلماء.
دكتوراه من السوربون
سافر الشيخ إلى فرنسا على نفقته الخاصة في عام تخرجه لاستكمال دراسته في جامعة السوربون، ثم حُول للبعثة الأزهرية عام 1938م وحصل على الدكتوراه عام 1940 وكانت رسالته بعنوان: "أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي"، ونال بها درجة امتياز بمرتبة الشرف الأولى، وقررت الجامعة طبعها بالفرنسية.
بدأ الشيخ الإمام حياته العملية مُدَرِّسًا لعلم النفس بكلية اللغة العربية، ثم نقل أستاذًا للفلسفة بكلية أصول الدين سنة 1951م، ثم عميدًا للكلية 1964م، وعين عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية، ثم أمينًا عامًّا له، وبدأ عمله بدراسة أهداف المجمع، وكوَّن الجهاز الفني والإداري من خيار موظفي الأزهر ونظمه خير تنظيم، وأنشأ المكتبة به على أعلى مستوى من الجودة، وبعدها أقنع المسؤولين في الدولة بتخصيص قطعة أرض بمدينة نصر لتخصيصها للمجمع لتضم جميع أجهزته العلمية والإدارية إلى جانب قاعات فسيحة للاجتماعات، فكان أول من وضع لبنات مجمع البحوث الإسلامية واهتم بتنظيمه، وواصل الشيخ عبد الحليم محمود اهتمامه بالمجمع بعد تعيينه وكيلا للأزهر ثم وزيرًا للأوقاف، ثم شيخًا للأزهر.
ومن مواقفه أنه بعد عودته من فرنسا كان يرتدي البدلة غير أنه بعد سماع خطبة للرئيس عبد الناصر يتهكَّم فيها على الأزهر وعلمائه بقوله: "إنهم يُفتون الفتوى من أجل ديكٍ يأكلونه" فغضب الشيخ الذي شعر بالمهانة التي لحقت بالأزهر، فما كان منه إلا أنه خلع البدلة ولبس الزيَّ الأزهريَّ، وطالب زملاءَه بذلك، فاستجابوا له تحديًا للزعيم، ورفع المهانة عن الأزهر وعلمائه.
ولايته لوزارة الأوقاف
أثناء توليه لوزارة الأوقاف عني بالمساجد عناية كبيرة، فأنشأ عددا منها، وضم عددا كبيرا من المساجد الأهلية، وجدد المساجد التاريخية الكبرى مثل جامع عمرو بن العاص أقدم المساجد في إفريقيا، وأوكل الخطبة فيه إلى الشيخ محمد الغزالي فدبت فيه الروح، وعادت إليه الحياة بعد أن اغتالته يد الإهمال، وتدفقت إليه الجماهير من كل صوب وحدب، وأنشأ بمساجد الوزارة فصولا للتقوية ينتفع بها طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية جذبت آلافا من الطلاب إلى المساجد وربطتهم بشعائر دينهم الحنيف.
ولايته لمشيخة الأزهر
في سنة 1970م صدر قرار جمهوري بتعيينه وكيلا للأزهر، فازدادت أعباؤه، واتسعت مجالات جهوده، فراعى النهضة المباركة في مجمع البحوث، وبدأ يلقي محاضراته في كلية أصول الدين، ومعهد الدراسات العربية والإسلامية، ومعهد تدريب الأئمة، إلى جانب محاضراته العامة في الجمعيات والأندية الكبرى بالقاهرة وغيرها من الأقاليم، وكان مع هذا كله يوالي كتابة الدراسات والمقالات في المجلات الإسلامية الكبرى، ويواصل الدراسات ويصنف المؤلفات القيمة ويشرف على رسائل الدكتوراه، ويشارك في المؤتمرات والندوات العلمية، وامتد نشاطه إلى العالم الإسلامي كله بنفس الهمة والنشاط.
صدر قرار تعيين الشيخ الإمام عبد الحليم محمود شَيْخًا للأزهر في 27 من مارس سنة 1973م، وقد باشر فيه السعي لتحقيق أهدافه العلمية السامية، لكن قراراً جديداً يصدر من رئيس الجمهورية في (17 من جمادى الآخرة 1394هـ= 7 من يوليو 1974م) يكاد يجرد شيخ الأزهر مما تبقى له من اختصاصات ويمنحها لوزير الأوقاف والأزهر، فقدم الشيخ استقالته من منصبه لرئيس الجمهورية، لأن هذا القرار يعوقه عن أداء رسالته الروحية.
ولقد رُوجع الإمام في أمر استقالته، وتدخل الحكماء لإثنائه عن قراره، لكن الشيخ أصر على استقالته، وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض تناول راتبه، وطلب تسوية معاشه، ووجه إلى وكيل الأزهر -وقتها- الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار خطابًا يطلب منه فيه أن يُصرِّف أمور مشيخة الأزهر حتى يتمَّ تعيين شيخ جديد، وأحدثت هذه الاستقالة دويا هائلا في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي.
عاود الرئيس أنور السادات النظر في قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارا أعاد فيه الأمر إلى نصابه، جاء فيه: "شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر".
مواقفه المشهودة
وفي عهده تم عقد مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، وتوالى انعقاده بانتظام، كما كان له موقفه الشجاع نحو قانون الأحوال الشخصية الذي روَّج له بعضُ المسئولين بتعديله؛ بحيث يقيَّد الطلاق، ويمنَع تعدد الزوجات، فانتفض الشيخ فقال: "لا قيودَ على الطلاق إلا من ضمير المسلم، ولا قيودَ على التعدد إلا من ضمير المسلم ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران: من الآية 101) ولم يهدأ حتى أُلغي القرار.
وقد روى في ذلك واقعة مرة أخذها البعض على أنها طرفة مفادها أنه في إحدى البلاد الإسلامية التي يمنع فيها تعدد الزوجات، تزوج رجل بامرأتين، ووضع كل واحدة منهما في منزل، فثارت خصومة بينه وبين أحد أصدقائه، فتوعده هذا الصديق بأنه سوف يرفع أمره إلى الجهات القضائية، وإلى الجهات المختصة، ويكشف هذه الجريمة التي ارتكبها هذا الإنسان، وهو أنه تزوج اثنتين، وفعلاً نفذ هذا الصديق القديم ما هدد به، وبلغ الجهات المختصة أن فلاناً عنده زوجتان، فثارت ثائرة هذه الجهات، وأجلبت بخيلها ورجلها، وصارت ترصد حركات هذا الإنسان وأنفاسه بصورة دقيقة، حتى قبض عليه فعلاً متلبساً بجرم مشهود، حيث كان يتردد على هذا البيت وذاك البيت، وأحضر وأجريت التحقيقات معه، ولكن كان الرجل ذكياً، فلما حققوا معه قال لهم: أنتم تعجلتم وأخذتموني بما لم أفعل، المرأة الأخرى ليست زوجة لي، وإنما هي عشيقة وصديقة، أتردد عليها لمجرد الصداقة! فقالوا له: فعلاً نحن أخطأنا وتعجلنا، وكان يجب أن نتأكد قبل أن نستدعيك، وقدموا له اعتذراً عما فعلو وأطلقوا سراحه!
كما لا ينسى أحد موقفه الشديد ضد قانون الخمر؛ حيث ندَّد به في كل مكان، وموقفه أيضًا من الشيوعية والإلحاد.
ولقد قام بإعادة الاعتبار للأزهر وأزال جميع العوائق والعراقيل التي وضعت في طريقه وفتح باب الأزهر على مصراعيه للوافدين من طلاب العلم والدين فعاد الأزهر من جديد إلى مكانة القيادة التعليمية والتربوية في العالم الإسلامي.
وكان رحمه الله إمامًا في الدعوة إلى الله تعالى بسلوكه وقدوته، أما غيرته على الإسلام فهي واضحة في كل أعماله وأقواله، فكان أحد حماة الدين المدافعين عنه في مواجهة الغزو الفكري، وكان يرى أنه لا بد في هذا الصدد من أمرين: الأول تحصين الدعوة الإسلامية وحمايتها وتقويتها، أما الثاني فهو مواجهة الغزو الفكري وتيارات التحلل والإباحية التي تريد النيل من دين الله تعالى.
وبالنسبة للأمر الأول فقد كان أول قرار يصدره بعد ولايته مشيخة الأزهر كان إنشاء إدارة لأول مرة في الأزهر تسمى إدارة القرآن الكريم تعمل على مستوى مصر والعالم ونهض لتدعيمها ونشرها على أوسع نطاق.
ولم يكن الرجل معزولاً عن القضايا السياسية والهم الوطني، فقد نادى بتحرير فلسطين وإعادة الحقوق الفلسطينية كاملة غير منقوصة فكان رأيه أنه لن يكون هناك سلام في منطقة الشرق الأوسط إلا برد حقوق الفلسطينيين كاملة وانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة والقدس ويرى أن تحرير المسلمين لا يكون كاملاً إلا بتحرير أراضيهم وتحرير عقولهم وضمائرهم من التيارات الدخيلة.
واجتهد بصدق وعمق للحيلولة دون الخصومة المصطنعة بين التصوُّف والسنّة النبوية، بل خلص في العشرات من المؤلفات والكتب والأحاديث والخطب إلى أن التصوف كان ـ ولم يزل ـ رافعة هامة حملت الإسلام إلى أفريقيا وآسيا، وأنه في حقيقته بعيدًا عما قد يلصقه به الأدعياء جوهر الإيمان بالله والتسليم بوحدانيته وجلال قدرته.
منهجه الفكري
أما منهجه الفكري فهو يقوم على المزج بين عقلانية الفلسفة وعمقها، وروحانية التصوُّف وشفافيته، ويقول في سيرته الذاتية (الحمد لله هذه حياتي)، ص 179: إن "كل ما كتبته عن التصوُّف وعن الشخصيات الصوفية فإنما يسير في فلك هذا المنهج"، ويمضي الإمام قائلاً: "إن ابن طفيل قد صوَّر في رسالته "حي بن يقظان" الطريق الكامل المشتمل على طريق العقل وطريق التصفية معًا".
تراثه العلمي
للإمام الدكتور عبد الحليم محمود إنتاج علمي غزير ومتنوع، فقد ترجم واشترك في ترجمة عدة كتب من الفرنسية إلى العربية، كما حقَّق العديد من كتب التراث، وخاصة في ميداني الفلسفة والتصوف، هذا بالإضافة إلى تأليف عدد كبير من الكتب في الفقه والفلسفة وغيرهما، ومن بين المؤلفات التي اشترك في ترجمتها: الفلسفة اليونانية لألبير ريفو، والمشكلة الأخلاقية لأندريه كريسون، ومن بين الكتب التي حققها : تفسير التستري في جزأين، الطريق إلى الله، وكتاب الصدق للخزاز، المنقذ من الضلال للغزالي، لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري.
ومن أهم الكتب التي اشترك في تحقيقها ونشرها: اللمع للطوسي، الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، الرسالة القشيرية للقشيري، عوارف المعارف للسهروردي، حكم ابن عطاء الله للشيخ أحمد بن زروق، التعرف لمذهب أهل التصوف للكلا باذي.
ومن بين الكتب التي ألفها: الإسلام والعقل، فلسفة ابن طفيل ورسالته، التفكير الفلسفي في الإسلام، التصوُّف عند ابن سينا، أوروبا والإسلام. وقد كتب سيرته الذاتية في كتاب مهم بعنوان: "الحمد لله هذه حياتي"، سجَّل فيه خلاصة تجربته الفكرية والإنسانية.
وعَبَّر عن منهجه التفصيلي في الإصلاح في كتابه القيم (منهج الإصلاح الإسلامي في المجتمع).
كما ترجم لعشرات الأعلام الصوفيين مثل سفيان الثوري وأبي الحسن الشاذلي وأبي مدين الغوث وغيرهم الكثير.
رحيله عن دنيانا
كانت من أخريات سفرياته استجابته لدعوة الأمين العام للمؤتمر الاقتصادي الإسلامي المنعقد في لندن في الفترة من 30 يونيه إلى 16 من يوليو سنة 1977م، وقد التقى فضيلته بكثير من علماء اللاهوت، وأساتذة مقارنة الأديان بالجامعات الإنجليزية وبمشاهير علماء الاقتصاد، وتقدم بمقترحات مهمة لوضع أسس متينة مقتبسة من الإسلام تتيح نهضة اقتصادية كبرى للشعوب الإسلامية.
وقد تلقت الأمة الإسلامية نبأ وفاته بالأسى في صبيحة يوم الثلاثاء 15 من ذي القعدة 1397هـ، الموافق 17 من أكتوبر 1978م وصلى عليه ألوف المسلمين الذين احتشدوا بالجامع الأزهر ليشيعوه إلى مثواه الأخير تاركًا تُرَاثًا فِكْرِيًّا ذَاخِرًا ما زال يعاد نشره وطباعته.