Print
الثورات العلمية وتطوير الخطاب العلمي.....
الثورات العلمية وتطوير الخطاب العلمي

د. أحمد فؤاد باشا

تعودنا في السنوات الأخيرة أن نقرأ ونسمع كثيرا عن شعارات وعبارات من قبيل‏: تجديد الخطاب الديني‏ أو الثقاقي‏ أو الإعلامي‏ أو السياسي‏ إلي آخره‏.‏


لكن مراجعة الخطاب العلمي أصبحت- فيما نري- ضرورة ملحة في عصرنا، ليس فقط علي المستوي المحلي، بل أيضا علي المستويين القومي والعالمي، لأن الحاجة إليها أهم من كل ما عداها من أنواع الخطاب المختلفة، وذلك انطلاقا من أهمية العلم ذاته كعنصر أساسي وحاكم في بناء الحياه المعاصرة، بحيث لم يعد هناك أي نشاط إنساني إلا ويعتمد علي العلوم وتقنياتها في تخطيطه وتطويره والإسراع بإيقاع حركته.

ويمكن الاسترشاد بجهود أهل الاختصاص في تفسير “الظاهرة العلمية”، بغية الوصول إلي فهم أفضل لحركة التقدم العلمي والتقني، والوقوف علي العوامل التي تؤدي إلي دفعها وتسارعها، أو تفضي إلي تراجعها وتعثرها.


ومن أهم الأفكار المطروحة في هذا الصدد ما قدمه فيلسوف العلم الفيزيائي المعاصر “توماس كون” Th.Kuhn (1922-1996م) في كتابه الشهير “بنية الثورات العلمية”، وفيه يشرح معني “الثورة العلمية” بأنها مرحلة الانتقال التي ينبغي علي المجتمع العلمي اقتحامها من أجل تغيير واستبدال نسق فكري لم يعد ملائما علي نحو متزايد.

وكل نظرية علمية “ثورية” تعتبر بمثابة إعادة توجيه للباحثين لكي يستخلصوا نتائج جديدة من معطيات قديمة، ومن ثم يمهد الطريق رويدا رويدا إلي كشف ثوري جديد وفق نموذج قياسي Paradigm جديد، وتتوالي الثورات العلمية تباعا لتقدم حلولا لمشكلات أكثر أهمية ينبغي حلها.


وهكذا نجد أن توماس كون يلجأ إلي “أنسنة” Humanizing الظاهرة العلمية من خلال تصوره لنموذج إرشادي في نظرية تحاول أن تربط بين تاريخ العلم وفلسفته من خلال عملية البحث العلمي التي تنطوي في جوهرها علي وجود الباحث العالم الذي يعتنق منظومة من الأفكار المتسقة بدرجة معقولة، مثل أرسطو وابن الهيثم ونيوتن وأنيشتين، حيث كان كل منهم رائدا بكشوفه الثورية في مجال بحثه خلال فترة زمنية معينة، ثم اختفي ليحل مكانه آخر.

فكأن تاريخ العلم الحقيقي إذن فيما يعتقد توماس كون هو تاريخ الثورات العلمية التي أدت إلي تغير أو تعديل أو تطوير النظرة إلي العالم، أو “رؤية العالم” Worldview وفق نماذج إرشادية تكون قادرة علي تفسير سلوك الظواهر الكونية والحياتية المختلفة، دون أن تقطع الطريق علي ابتكار نظريات علمية جديدة.

ذلك أن الكون( العالم) بطبيعة الحال لم يتغير عما هو عليه في الواقع الحقيقي، ولكن إدراكنا له هو الذي يزداد عمقا واتساعا مع ازدياد تطور العلوم وتقنياتها؛ فالتغير في الفاعل وليس في المفعول به.


ويسوق توماس كون تبريرات عدة لتسمية التغير في النموذج الإرشادي بالثورة، ولاستخدام ذات الاستعارة التشبيهية الدالة علي الثورة في كل من التطور السياسي والتطور العلمي.

من ذلك أن الثورات السياسية تبدأ مع تصاعد الإحساس الذي يكون في الغالب قاصرا علي قطاع من المجتمع السياسي عندما تصبح المؤسسات القديمة عاجزة عن الوفاء علي نحو ملائم بحل المشكلات التي تفرضها بيئة كانت تلك المؤسسات طرفا في تكوينها.

وبنفس الطريقة إلي حد كبير تستهل الثورات العلمية بتزايد الإحساس عند فئة محدودة من المجتمع العلمي بأن أحد النماذج الإرشادية القائمة قد كف عن أداء دوره بصورة كافية في مجال اكتشاف جانب من الطبيعة سبق أن وجه إليه هذا النموذج الإرشادي ذاته.

ونلاحظ في كل من التطور السياسي والتطور العلمي أن الإحساس بسوء الأداء الذي يمكن أن يفضي إلي أزمة يعد شرطا مسبقا للثورة.


وهناك جانب آخر من التناظر بين التطور السياسي والتطور العلمي غير هذا الذي أوضحناه، من حيث نشوء كل منهما، يتمثل في الاختيار بين نماذج إرشادية متنافسة في مقابل الاختيار بين مؤسسات سياسية متنافسة، حيث لا يوجد معيار أسمي من موافقة وقبول المجتمع المختص: العلمي أو السياسي، فهو السلطة الأعلي التي تحسم الاختيار.

وليس من شك في أن التاريخ يمكن أن يزودنا بأمثلة عديدة توضح لنا مدي التناظر بين الثورات العلمية والثورات السياسية.


ومهما يكن من أمر التساؤلات التي تدور حول أوجه اللبس والغموض في نظرية توماس كون، فإن ما يعنينا هنا أنه تخلي عن موضوعيته كعالم فيزيائي، قبل أن يكون فيلسوفا للعلم، وقرر أن “كل حضارة من الحضارات تمتلك وثائق تؤكد ما لديها من تقنيات وفنون ودين وقوانين، وغيرها. ولقد كانت هذه الجوانب في كثير من الحالات متطورة مثل حضارتنا. ولكن الحضارات التي انحدرت إلينا عن اليونان الهيلينية هي فقط التي عرفت ما هو أكثر من العلم البدائي. إن الكم الأساسي من المعرفة العلمية هو نتاج أوربا علي مدي القرون الأربعة الأخيرة. ولم يحدثنا التاريخ عن أي زمان أو مكان آخرين توفر فيهما الدعم والتأييد لتكوين مجتمعات علمية متخصصة جدا يمكنها أن تحقق إنتاجية علمية”.

ولا شك أن في هذا الرأي المتحيز للثقافة الغربية إجحافا وظلما واضحين في حق الحضارات الرائدة للعرب والمصرين والصينين والهنود وغيرهم. وهذا يجعلنا ننحو باللائمة علي أصحاب هذه الحضارات الذين تركوا غيرهم يستأثرون بكتابة التاريخ ويرفعون من شأن حضارتهم علي حساب الحضارات الأخري.


من ناحية أخري، تتيح لنا نظرية توماس كون ذاتها أن ندحض ما افتراه هو نفسه في حق حضارتنا العربية الإسلامية الرائدة بأن نقدم إضافة تفسيرية جيدة لتاريخ العلم ودوره في إدراك العالم وتشكيل الرؤية الكونية، خاصة فيما يتعلق بتحديد مراحل هذا التاريخ بعدد النماذج الإرشادية التي حددت رؤية العلماء ووجهتهم إلي ممارسة عملهم المعتاد من خلالها علي أساس ما لديهم من اعتقادات مشتركة. وهذه النتيجة المهمة من شأنها أن تساعد علي تحديد مكانة العلم في عصر الحضارة العربية الإسلامية، ومكانه الطبيعي في سلم الترقي الحضاري منهجيا ومعرفيا.

Print

مركز تحقيق التراث

بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا

مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا أنشيء عام 2010م خدمة للتراث والمشتغلين به، ومشاركة في الحفاظ عليه والتوعية بقيمته وإبرازا لإنجازاته المزيد

العنوان:

جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا الحي المتميز - مدينة 6 اكتوربر
Web: www.must.edu.eg
Facebook: facebook.com/mustuni
Twitter: twitter.com/must_university
Instagram: instagram.com/mustuni
Pinterest: pinterest.com/mustuni

تليفون:

فاكس

01285330279-01285330279- 01060314825

بريد الكتروني


abhashem2009@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة ل مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا