Print
في ذكرى الإسراء والمعراج.....
في ذكرى الإسراء والمعراج

في ذكرى الإسراء والمعراج

نشر: الاثنين 13 فبراير 2023م

د. محمد فتحى فرج

الأستاذ المتفرغ بجامعتى المنوفية ومصر للعلوم والتكنولوجيا

      يدور الزمن دورته ، وتهل علينا ذكرى الإسراء والمعراج ، ذلك الحادث العجيب فى التاريخ الإسلامى ، بل فى التاريخ الإنسانى كله ، بل إن هذه الذكرى عند يقظان القلب لا تغيب عنه كلما عرَّج بقلبه إلى ربه فى صلاته فى الصباح أو المساء ، وكأنى بلسان حاله يردد قول الله تعالى: " إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين". الأنعام: 79.

     وقد بلغ من تأثير هذا الحدث الفريد أن استلهمه عَلمَان كبيران فى الأدبين العربى والغربى، أولهما شاعر المعرة المعروف بأبى العلاء المعرى، وهو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعى التنوخى المعرى (363ـ449 هـ / 973ـ1057 م) فيما وضعه تحت عنوان "رسالة الغفران"، وثانيهما الشاعر الإيطالى دانتى أليجييرى Dante Alighieri (1265ـ1321م) فيما ألفه بعنوان "الكوميديا الإلهية" بأجزائها الثلاثة الشهيرة.

الإسراء والمعراج معجزتان عظيمتان:

    والحق أن كلا من الإسراء والمعراج حدثان عجيبان ، ومعجزتان عظيمتان ، كان كل منهما ولا يزال يحتاج إلى إيمان عميق ؛ كى تستوعبه قدرة الإنسان على التصور وطاقته على التخيل. ولا تنظر ـ عزيزى القارئ ـ إلى كلٍ منهما الآن بعد ما أصبحا جزءا من التاريخ الإسلامى الموثَّق ، ولكن انظر إليهما فى السياق التاريخى إبان حدوث هذين الحدثين الفذين ، وفى البيئة القرشية التى ناهضت نبى الإسلام ، ولم تكن على استعداد لتقبل مثل هذه الأخبار الغريبة لاسيما أنها بيئة لم تكن أصلا قد اعترفت بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بَعدُ. ولهذا ، فقد هرع بعض المشركين إلى سيدنا إبى بكر ـ أول من أسلم من الرجال ـ ليخبروه بما سمعوه من النبى ظانين أنهم بهذا سيزعزعون إيمانه ، ويحولونه بهذا من النقيض إلى النقيض. ولكن إيمان أبى بكر كان أكبر من أوهامهم ، فقال قولته الشهيرة: "إن كان قد قال ذلك فقد صدق" ، ولهذا فقد نال وسام الصديقية ، فعُرِف منذ ذلك الحين بأبى بكر الصديق(1).

الإسراء:

    يقول الله تعالى فى أول سورة الإسراء: "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". الإسراء: 1. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية قد نزلت فى إسرائه صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك بمكة المكرمة ، فقد صلى النبى المغرب فى المسجد الحرام ، ثم أسرى به فى ليلته ، ثم رجع فصلى الصبح فى المسجد الحرام ، فأما الموضع الذى أسرى به إليه فهو بيت المقدس ، وقد نطق به القرآن الكريم ولا يدفعه مسلم ، وما قاله بعضهم: إن ذلك كان حال نومه فهو ظاهر البُطلان ؛ إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان ، وقد وردت روايات كثيرة فى قصة المعراج ، أى فى عروج رسولنا إلى السماء ، ورواها كثير من الصحابة ، مثل ابن عباس وابن مسعود وأنس وجابر بن عبد الله وحذيفة والسيدة عائشة وأم هانئ ، وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين.

    وقد ورد فى تفسير آية الإسراء، وابتداؤها بكلمة "سبحان" ما يعلِّل لهذا الحدث العظيم؛ فهى كلمة تنزيه وإبراء لله عز اسمه عما لا يليق به من الصفات ، وقد يُراد به التعجب ، يعنى سبحان الذى سيَّر عبده محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو من عجيب قدرة الله تعالى، وتعجبٌ ممن لم يُقدِّر الله حق قدره ، وقد يقال حين يُسْتَمَعُ للشىء العجيب: سبحان الله!

     وقد ذكر معظم المفسرين أنه قد أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانئ أخت على بن أبى طالب ـ كرم الله وجهه ـ وزوجها هبيرة بن أبى وهب المخزومى ، فقد كان صلى الله عليه وسلم نائما فى تلك الليلة فى بيتها كما ذكر الطبرسى فى تفسيره(2) ، والنسفى فى "مدارك التنزيل وحقائق التأويل".

    فلما أخبرها النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر وقال: "إنه سيحدثُ الناس به" ؛ أشفقت السيدة أم هانئ رضى الله عنها ـ كما ذكر الدكتور عبد الحليم محمود فى كتابه "الإسراء والمعراج" ـ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرادت منه أن يعدل عن ذلك قائلة: إنهم سيكذبونك. فلم يستجب صلوات الله وسلامه عليه لنصيحتها ؛ لأن الحق ينبغى أن يُذاع ، وأذاعه صلى الله عليه وسلم بين الناس ، وحدث ما حدث ليكشف الله بهذا عن معادن الناس ، ويُظهر المؤمن الحق راسخ الإيمان مما سواه من ضعاف النفوس والإيمان ، فكان خيرا أىّ خير على كل حال.  

    وقد أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم كما جاء بالآية الكريمة السابقة: "ليلا" ، أى أن حادث الإسراء وقع فى الليل ، من المسجد الحرام كما قال به الحسن وقتادة رضى الله عنهما إلى المسجد الأقصى يعنى بيت المقدس ، وإنما قال الأقصى لبُعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام بمكة. وقال تعالى "ليلا" على التنكير ـ مع أن الاسراء لا يكون إلا فى الليل ـ لبيان أن الحدث تم فى جزء من الليل.

     وقد وصف ربنا جل وعلا  المسجد الأقصى بقوله تعالى: "الذى باركنا حوله": أى جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والأثمار والنبات والأمن والخصب ، حتى لا يحتاجوا إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر دونه.

    وقيل أيضا: باركنا حوله أى جعلنا البركة فيما حوله بأن جعلناه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة ـ عن مجاهد. وبذلك صار مقدسا عن الشرك ؛ لأنه لما صار متعبدا للأنبياء ، ودار مقام لهم ، تفرق المشركون عنهم فصار مطهرا من الشرك. والتقديس: التطهير ، فقد اجتمعت فيه بركات الدين والدنيا.

المعراج:

     ومن بيت المقدس ومن فوق صخرة فى رحابه تم العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء. وعرج فى الدرجة والسلّم يعرج عروجا أىْ صعد وارتقى ، وعرج فى الشىء عروجا رقى ، وعرج الشىء فهو عريج ، أى ارتفع وعلا.

    يقول ابن سعد فى طبقاته: ثم أخذ جبريل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة فأقعده عليها ومن هناك ابتدأ عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماء ، ثم كان ما كان من أحداث ومشاهد عجيبة ـ كما لخصها الدكتور الراجحى ـ مثل الثور الذى خرج من ثقب فى جحر ثم أراد أن يعود إليه فلم يستطع ، وقال جبريل إنه مثلٌ للرجل يتكلم الكلمة لا يلقى لها بلا فيندم ويريد الرجوع فيها فلا يستطيع ، والذين رآهم النبى يأكلون جمرا بأفواههم يخرج من أدبارهم وكان مثلهم كمثل آكل مال اليتيم ، والذين رآهم تُضرَبُ رؤوسهم بالحجارة وكانوا مثلا مضروبا للمتكاسلين عن الصلاة ؛ والذين رآهم النبى يخمشون جلودهم بأظافرهم وكانوا مثلا للمغتابين ؛ والذين رآهم يتركون لحما طيبا هنيئا ليأكلوا لحما فاسدا خبيثا ، وكانوا مثلا للزناة يتركون الزوجات الطيبات الحلال إلى نساء زانيات فاجرات ؛ والذين رآهم يزرعون فيحصدون كلما حصدوا زرعوا وكلما زرعوا حصدوا ، وكان مثلا للمنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، والذين يسبحون فى نهر من الدماء ، والمرأة المتزينة التى نادته صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها. إلى غير ذلك من مشاهد وأحداث. هذا فضلا عن فرضية الصلاة فى السماوات العلى ، وتخفيفها لتصبح خمس فى الأداء وخمسون فى الأجر. كل هذه الرحلة ، وكل هذه المشاهد والأحداث حدثت ـ بقدرة الله تعالى ـ فى جزء يسير من الليل!! فسبحان الله القوى القادر.     

الهوامش والتعليقات:

  1. عباس العقاد (2005). عبقرية الصديق. الطبعة السادسة. نهضة مصر للطباعة والنشر. القاهرة. ص 9.
  2. الطبرسى (2005). مجمع البيان فى تفسير القرآن. الجزء السادس. تفسير سورة الإسراء. الآية 1. دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت ، لبنان. ص 163.

  

 

Print

مركز تحقيق التراث

بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا

مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا أنشيء عام 2010م خدمة للتراث والمشتغلين به، ومشاركة في الحفاظ عليه والتوعية بقيمته وإبرازا لإنجازاته المزيد

العنوان:

جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا الحي المتميز - مدينة 6 اكتوربر
Web: www.must.edu.eg
Facebook: facebook.com/mustuni
Twitter: twitter.com/must_university
Instagram: instagram.com/mustuni
Pinterest: pinterest.com/mustuni

تليفون:

فاكس

01285330279-01285330279- 01060314825

بريد الكتروني


abhashem2009@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة ل مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا