Print
تفسير سورة "الناس" لفضيلة الدكتور إبراهيم عوض الأستاذ بجامعة عين شمس.....
تفسير سورة

قل: أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس من شر الوسواس الخناس. دعوةٌ إلى الاستعانة بالله ربنا وخالقنا وحافظنا ورازقنا ومَالكنا والقابض على أَزِمَّة كل شىء فى الحياة وإلهنا الذى لا ينبغى أن نعبد غيره أو نتجه بالدعاء إلى سواه، وحَثٌّ على الاحتماء به من وساوس الشيطان وأخاديعه الشريرة، فالإنسان ضعيف عادة أمام شهواته وغرائزه، والشيطان يأتيه من هذه الثغرة، ومن ثم كان هناك صراع دائم بين الشيطان والإنسان يحتاج فيه الإنسان إلى المعونة. والله أحرى أن نطلب منه المعونة فى هذا الصراع المرير، فهو الرب والملك والإله لا للناس وحدهم بل لكل المخلوقات بما فيها الشيطان نفسه. وأى استعاذة بغيره فإنها فى الواقع استعاذة به سواء أدرك المستعيذ ذلك أو لا، إذ هو سبحانه أساس كل شىء وخالق كل شىء، وكل القدرات التى لدى المخلوقات هى منه عز وجل. وذِكْر الله يلقى الخوف منه تعالى فى نفس المؤمن فيجتهد فى الابتعاد عن المعاصى، ويرفع الروح المعنوية بتذكر الأجر الذى ينتظره حين يعمل الخير فيَقْوَى على كفاح الشيطان ولا يستسلم له بسهولة.
والملاحظ أن كثيرا من آيات القرآن تبدأ بقوله تعالى: "قل". وهو دليل على أن الرسول يؤدى ما يوحى إليه بكل أمانة وإخلاص، وإلا لقال مباشرة: "أعوذ برب الناس"، "أعوذ برب الفلق"، "رَبِّ، أعوذ بك من همزات الشياطين" بدون التمهيد لها بكلمة "قُلْ". وقد دعا الرئيس الليبى السابق معمر القذافى صاحب النوادر والبوادر والتقليعات العجيبة والاختراعات الغريبة يوما إلى إسقاط "قل" هذه من كل آية وردت فيها باعتبار أن هذا أمر من الله لرسوله أن يقول مثلا: "أعوذ برب الناس"، والمفروض أن يقول مباشرة: "أعوذ برب الناس" كما أُمِرَ أن يقول مع حذف "قل". وقال القرطبى فى تفسير سورة "الإخلاص": "وقد أسقط مِنْ هذه السورة مَنْ أبعده الله وأخزاه، وجعل النارَ مُقَامه ومثواه، وقرأ: "اللَّهُ الواحدُ الصَّمَدُ" في الصلاة، والناس يستمعون، فأَسْقَط "قُلْ: هو"، وزعم أنه ليس من القرآن".
وتوسع ابن القيم فى الحديث عن هذه النقطة فقال فى تفسيره لسورة "الفلق": "فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به فقال: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" و"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ"، ومعلومٌ أنه إذا قيل: "قل: الحمد لله" و"قل: سبحان الله" فإنَّ امتثاله أن يقول: "الحمد لله" و"سبحان الله" ولا يقول: "قل: سبحان الله"؟ قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبيُّ بن كعبٍ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعينه، وأجابه عنه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال البخاريُّ في "صحيحه": حدَّثنا قتيبة: ثنا سفيان عن عاصمٍ وعبدة عن زرٍّ قال: سألتُ أُبَيَّ بن كعبٍ عن المعوِّذتين فقال: سألت رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: قِيلَ لِي، فَقُلْتُ. فنحن نقول كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. رواه البخاري ثمَّ قال: حدَّثنا عليُّ بن عبد الله: ثنا سفيان: ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زرِّ بن حبيشٍ، وحدَّثنا عاصمٌ عن زرٍّ قال: سألت أُبَيَّ بن كعبٍ قلت: أبا المنذر، إنَّ أخاك ابن مسعودٍ يقول كذا وكذا. فقال: إنِّي سألتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: قيل لي، فقلت. قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قلت: مفعول القول محذوفٌ، وتقديره قيل لي: قل أو قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي. وتحت هذا السرِّ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس له في القرآن إلَّا بلاغُهُ لا أنه هو أنشأه مِن قِبَل نفسه، بل هو المبلِّغ له عن الله. وقد قال الله له: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ"، فكان يقتضي البلاغُ التامُّ أن يقول: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إليه بقوله: قيل لي، فقلت. أي إنِّي لست مبتدئًا بل أنا مبلِّغٌ أقول كما يقال لي، وأبلِّغ كلامَ ربِّي كما أنزله إليَّ. فصلواتُ الله وسلامُه عليه. لقد بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا مِن المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممَّن يقول: هذا القرآن العربيُّ، وهذا النظم كلامُه ابتدأ هو به. ففي هذا الحديث أَبْيَنُ الردِّ لهذا القول وأنه صلَّى الله عليه وسلَّم بلَّغ القولَ الذي أُمِر بتبليغه على وجهه ولفظه حتى إنه لمَّا قيل له: "قُلْ" قال هو:" "قل" لأنه مبلِّغٌ محضٌ، وما على الرسول إلَّا البلاغ".
والإتيان بكلمة "قل" مباشرة على هذا النحو فى القرآن دون أن يسبقها أن الله قد قال لرسوله ذلك هو شىء ينفرد به القرآن، فليس فى الكتاب المقدس شىء من ذلك بل الذى فيه مثلا: "2ثُمَّ كَلَّمَ اللهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: «أَنَا الرَّبُّ. 3وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِاسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ. 4وَأَيْضًا أَقَمْتُ مَعَهُمْ عَهْدِي: أَنْ أُعْطِيَهُمْ أَرْضَ كَنْعَانَ أَرْضَ غُرْبَتِهِمِ الَّتِي تَغَرَّبُوا فِيهَا. 5وَأَنَا أَيْضًا قَدْ سَمِعْتُ أَنِينَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَسْتَعْبِدُهُمُ الْمِصْرِيُّونَ، وَتَذَكَّرْتُ عَهْدِي. 6لِذلِكَ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا الرَّبُّ" كما نقرأ فى الإصحاح السادس من سفر "الخروج"، أو "1وَكَانَ فِي السَّنَةِ الْحَادِيَةِ عَشَرَةَ، فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَنَّ كَلاَمَ الرَّبِّ كَانَ إِلَيَّ قَائِلاً: "يَا ابْنَ آدَمَ، قُلْ لِفِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ وَجُمْهُورِهِ: مَنْ أَشْبَهْتَ فِي عَظَمَتِكَ؟" كما جاء فى الإصحاح الحادى والثلاثين من سفر "حزقيال". إن القرآن يقول مباشرة: "قل كذا وكذا"، أما فى الكتاب المقدس فتأتى قبل كلمة "قل" دائما عبارةٌ تعنى أن الله كلم النبى الفلانى وقال له: قل كذا وكذا.
ولكليمان هوار المستشرق الفرنسى رأى فى تكرار كلمة "قل" فى القرآن أورده فى الفصل الذى تحدث فيه عن القرآن ضمن كتابه عن "تاريخ الأدب العربى" مؤداه أن الرسول عليه السلام إنما استعمل تلك الكلمة كيلا يكون ثمة ريب فى أن الكلام الذى يتلوه على الناس هو من عند الله. ويمكن القارئ أن يرجع إلى الفصل الأول من الباب الثانى من كتابى: "المستشرقون والقرآن" حيث يجد ترجمتى لهذا الفصل وتعليقى على هذا الكلام. وقد رددت على تلك الشبهة هناك بأن العبرة ليست فى كلمة "قل" بل فى الروح الإلهى الذى يسود القرآن من أوله إلى آخره، وفى الدلائل العقلية التى يحشدها القرآن حشدا لإقناع الناس بصدق الدعوة المحمدية المكرَّمة، وكذلك فى الأمانة والصدق والاستقامة وغيرها من الصفات النبيلة التى كان يتمتع بها سيد البشر عليه الصلاة والسلام، فضلا عن أن كلمة "قل"، وإن تكررت كثيرا فى القرآن، فإن النصوص التى تخلو منها أكثر عددا كثرة مهولة، وهو ما فصلت القول فيه تفصيلا فى كتابى: "مصدر القرآن". وأضيف هنا أنه لو كان النبى هو مؤلف القرآن ويريد أن يوهم الناس بكلمة "قل" أنه يتلقاه من السماء لكان عمل كما عمل كتاب العهد القديم، إذ كانوا يقولون: "وقال لى الرب: قل كذا وكذا" بدلا من الإتيان مباشرة بكلمة "قل" من غير تمهيد. كما أننا كلما قارنا بين القرآن الكريم والكتاب المقدس فى أى مسألة مشتركة خرج القرآن من المقارنة منتصرا لاعتماده دائما على المنطق وحديثه عن الله وأنبيائه ورسله بما يليق بهم على عكس الكتاب المقدس كما هو معروف.
و"الوَسْوَاس" بفتح الواو الأولى هو الكثير الوسوسة، أما "الوِسْواس" بكسرها فهو مصدر "وسوس"، وهناك صيغة مصدرية أخرى لهذا الفعل هى "الوسوسة". أى أن "الوَسْواس" صفة، و"الوِسْواس" مصدر. ومثلهما "الزَّلْزال والزِّلْزال (الزلزلة)" و"الرَّجْراج والرِّجْراج (الرجرجة)"... وهكذا. فالوَسْواس هو الشيطان الكثير الوسوسة، أى الذى يلح على الإنسان بإغراءاته وإغواءاته التى لا تنتهى والتى يخنس عنها كلما تنبه الإنسان واستحضر ربه فى عقله وضميره، أو يكون معنى "الخناس" هو الذى يوسوس ثم يخنس، ثم يوسوس ثم يخنس... وهكذا دواليك. والشيطان لا يكف عن الوسوسة بالشر بل كلما شام فرصة انتهزها وعاد يوسوس من جديد، إذ كان قد طلب من ربه عند خلق آدم أن يمهله فلا يعاقبه على عصيان الأمر بالسجود لأبينا بل ينتظر به إلى يوم يبعثون، قائلا إنه سوف يبذل كل جهده فى تزيين الشر للإنسان وإغوائه بالعصيان، ومن ثم لا ينبغى أن نتوقع توقفه عن الوسوسة لأنها مهمته فى الحياة، بينما واجبنا المنوط بنا الاضطلاع به فى مواجهته هو التأبى عليه والتفلت من إغراءاته.
والشيطان يوسوس فى صدور الناس ولا يوسوس فى آذانهم. والمقصود بالوسوسة هو الصوت الخفى. والمعنى أنه يقوم بإثارة الشهوات والغرائز، وإلا فالإنسان لو ذهب يتسمع من هنا إلى يوم الدين فلن يسمع شيئا فى صدره. وقد صور النبى إغراء الشيطان لابن آدم بطريقة أخرى فقال إن الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم فى العروق. وأفهم من هذا أن الوسوسة تنبع من داخل الإنسان لا من خارجه. وأداة الشيطان فى ذلك هى ما ركب فينا من شهوات وغرائز. على أن هذه الشهوات والغرائز ليست شيئا سيئا فى حد ذاتها، بل تكون كذلك إذا ما دفعتنا إلى اقتراف الشر، أما إذا دفعتنا إلى عمل الخير فتكون دوافع حسنة بناءة. فممارسة الجنس مثلا فى الزنا حرام يعاقَب الزانى عليه، على حين أن ممارسته فى الزواج شىء طيب وجميل ويأخذ الإنسان عليه أجرا. والحسد فى عمل الخيرات أمر مطلوب وشعور نبيل، أما الحسد حين يتحول حقدا يحمل صاحبه على أذى المحسود فهو سلوك منحط خسيس... وهلم جرا. ولولا الشهوات والغرائز ما كانت هناك حضارة. المهم أن تكون حضارة نظيفة كريمة لا حضارة خسيسة كريهة. وهذا يتوقف على كيفية تعاملنا مع شهواتنا وغرائزنا على نحو ما وضحت.
ويبقى قوله سبحانه: "من الجنة والناس"، والمعنى أنه يوسوس فى صدور الناس سواء كان هؤلاء الناس الذين يوسوس لهم من الجن أو كانوا من البشر. وفى الحديث "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن". أى أن كلمة "الناس" يمكن أن تطلق على الجن أيضا مثلما تطلق على ا لبشر. وقال الطبرى فى تفسير السورة: "وقد ذُكِر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ. فجعل منهم ناساً، فكذلك ما في التنزيل من ذلك". فالجن مستهدفون من الشيطان، وهو يوسوس لهم مثلما يوسوس لنا نحن أبناء آدم. وقد يكون المعنى أن الوسواس كما يكون من الإنس فكذلك يكون من الجن، إذ كما أن هناك شياطين من بنى إبليس فهناك شياطين من بنى آدم. وفى القرآن ذكر لشياطين الإنس والجن جميعا.

Print

مركز تحقيق التراث

بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا

مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا أنشيء عام 2010م خدمة للتراث والمشتغلين به، ومشاركة في الحفاظ عليه والتوعية بقيمته وإبرازا لإنجازاته المزيد

العنوان:

جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا الحي المتميز - مدينة 6 اكتوربر
Web: www.must.edu.eg
Facebook: facebook.com/mustuni
Twitter: twitter.com/must_university
Instagram: instagram.com/mustuni
Pinterest: pinterest.com/mustuni

تليفون:

فاكس

01285330279-01285330279- 01060314825

بريد الكتروني


abhashem2009@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة ل مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا